بقلم : القلب الحانيذكر الله الاستخلاف في موضعين مختلفين في القرآن الكريم لجيلين مختلفين، والموضع الأول {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}، أمَّا الموضع الثاني {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}والاستخلاف في الموضعين ليسا سواء، ففي الموضع الأول نجد أنَّ الجيل المستخلف لم يقم بأي شيء يستحق به الاستخلاف في الأرض، إنَّما كان استخلافه اختبارًا له ولهلاك عدوه الذي لم يهلك لصلاح ذلك الجيل المستخلف، إنَّما لفساد الهالكين ووصولهم حدَّ النديَّة لله عز وجل في أرضه، فكان هلاكهم تحقيقًا لسنّة من سنن الله، وجاء استخلاف الله من بعدهم ابتلاءً لذلك الجيل المستضعف على أيديهم الذي طالما شكا الظلم والاستضعاف، فكيف كان أداؤه ؟إنَّ هذا الجيل المستخلف بغير استحقاق لم يكن من الطغاة يومًا ولم يكن وليَّا للظالمين، إنَّما كان ضحيتهم،لكنَّه ضرب مثالًا عجيبًا عندما اسُتخلف، فلقد كان من الظالمين لأنفسهم، ومرَّ ظلمه هذا بمراحل، هي:1- ظنه أنَّه مستحق للاستخلاف، وأنَّه شعب الله المختار، وقد تناسى أفراده أنَّهم لمَّا بُشروا بالاستخلاف أُخبروا أنَّه اختبار لهم، بل ونسوا حال أنفسهم الذي عَلموه يقينًا.2- ثم عُبر بهذا الجيل البحر، فكان أولَّ ما طلبوه بعد أن حررهم الله وأهلك عدوهم الذي استعبدهم أمام أعينهم طاغوت جديد يستعبدهم من دون الله.3- ثمَّ جاءهم الأمر من الله بمواجهة الباطل والطغيان في أرض أخرى من أرض الله ليكونوا جندًا لله هذه المرة، يهلك بهم طغاة الأرض، وجاء مع الأمر الوعد بالنصر، فرفضوا الأمر ذاكرين طغيان عدوهم رغم أنَّ الله أراهم هلاك من استعبدهم من قبل من دون أن يستحقوا ذلك، ثم أُعيد عليهم الأمر مرة أخرى، لكنَّه هذه المرة ليس مرفقًا بوعد بالنصر فقط، بل بوعد عدم دخولهم القتال الذي تخشاه نفوسهم أيضًا، فينصرون بمجرد الدخول على عدوهم من الباب، فرفضوا الدخول وجبنت عنه نفوسهم.فضرب الله بعد الثالثة على هذا الجيل التيه في الأرض أربعين سنة، وقال أهل العلم: كانت هذه المدة حتى يُستبدل ذلك الجيل تمامًا وينتهى أثره..، فإنَّه وإن كان جيلًا ليس من أهل الباطل ويُحسب على أهل الحق إلا أنَّه خاذل للحق ولا يقوى على حمله،وإنَّ جيل التيه قد يُمنح الحرية لكنَّه لا يُمنح الكرامة، لأنَّها لا تمنح وإنَّما تُربَّى عليها النفوس.جيل ألفت نفسه معاني العبودية رغم الحرية التي مُنحت له، فهي راسخة في وجدانه يسعى لا إراديًّا ليعود إليها، وإن حُرِّر منها عاد إليها مرة أخرى، فهو لا يعرف إلا أن يعيش مستعبدًا لغير الله.جيل ألفت نفسه الجبن، فهو جبان في ذاته لا يقوى على الصدام وإن علم يقينًا أنَّه منصورٌ بوعد الله.جيل لا يكون إلا مرحلة انتقال بين الاستعباد والتمكين،ذلك التمكين الذي لا يأتي إلَّا على يد جيلٍ آخرَ رُبيت نفسه على معاني العزة والكرامة واستعلاء الإيمان في النفوس، جيل لا يعرف أن يكون إلَّا عبدًا لله، ولا يعرف إلَّا أن يكون ذليلًا منكسرًا بين يديه يخشى استبداله ويرجو استعماله، جيل يهوى صِدَام الباطل حتى يخضعه لسلطان الحقّ، فهو لا يعرف إلَّا أن يحيا في الدنيا كريمًا أو يحيا عند ربِّه كريمًا. وهو ذلك الجيل المستحق للنصر والموعود بالتمكين في الأرض، لأنَّه حقّق شرطه وليس مجرد الاستخلاف فيها.جيل لم يجعل التمكين والاستخلاف همَّه، إنَّما جعل ما كلفه الله به من تكاليف ووسائل وأوامر ونواهٍ همَّه، ولم يتجاوز حدود ذلك إلى وسائل لم يشرعها له الله ولم يأمره بها، لم يتجاوزها لظن استسهالٍ في البذل واستقلال في تكلفة الحق وضريبته من نفوس حامليه، فلم ينشغل عن تكليف الله له بما تكفل الله به من تمكين و نصر واستخلاف { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، فالنصر الأول هو ما تم تكليفنا به، والثاني هو ما تكفل الله به، فالتمكين والنصر ليسا الشيء الذي سنسأل عنه أمام الله، وإنَّما هو وعد الله لمن آمن واتَّقى وأصلح واتبع منهاجه، وهؤلاء هم أهل الموضع الثاني {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.