لماذا نشعر بالاشتياق والحاجة الماسة إلى أشخاص بعد رحيلهم عن عالمنا أو غيابهم عنا ولا نشعر بأهميتهم في حال وجودهم معنا؟!
سؤال طرحته إحدى الإذاعات على الهواء مباشرة لمعرفة آراء الناس حول تلك الظاهرة الغريبة، والأغرب أن جميع إجابات المستمعين كانت تدور حول فكرة واحدة “نحن لا نعرف قيمة من نحب إلا في حال غيابهم أو فقدانهم” ويعيد السؤال نفسه لماذا لا نشعر بأهميتهم أثناء وجودهم؟!
ربما هو إحساسنا الداخلي بقدرتنا على التواصل معهم في أي وقت نشاء، فما دام الحبيب أو الصديق أو الأم أو الأخت على قيد الحياة وقريبًا منا إلى حدّ ما، فإننا نسارع للتواصل معهم في أوقات الفراغ أو الحنين، ونندفع تلقائيا للزيارة أو اللقاء عبر مكالمة فيديو أو حتى التعبير بكلمات وديّة عبر رسالة نصية، كأننا نمتلك من نحب ونستطيع التواصل والوصول إليه في كل وقت، وكذلك الحال مع الأشياء، فالجائع مثلا لا يصيبه التوتر من إحساسه بالجوع، فهو يعلم أن ثلاجته المنزلية تحوي ما لذَّ وطاب من مأكولات، لكنه قد يغضب بشدة في حال فتح باب الثلاجة ليجدها فارغة.
لقد ربط أحد الفلاسفة الشعور بالغياب (بغريزة التملك)، فأنت تملك الشخص أو الشيء الذي تحبه، وفي حال غاب أو مات أو رحل بعيدًا فإن شعورًا مؤلمًا للغاية يطفو على السطح، إنه الإحساس بالفقد، وحينها يستنفر الفاقد كلَّ طاقاته لاسترجاع المفقود، وتصيبه أثناء ذلك حالة من الصراع والتوتر حتى يهدأ أخيرًا بالوصول إلى غايته، أو يستسلم لحزن يطول أو يقصر فيما إذا خسر ما يريد استرجاعه.
من أجمل ما قرأت من عبارات تدعو للتوازن ما بين الغياب والحضور قول أحدهم:
“لا تقترب إلى درجة إبصار العيوب، ولا تبتعد إلى درجة نسيان المحاسن” وبحسب هذه القاعدة الحكيمة ينصح خبراء العلاقات الزوجية بابتعاد الزوجين عن بعضهما بين حين وآخر، فإن ذلك يجدد العاطفة بينهما، ويدعو كلَّ طرف لإحصاء مزايا الطرف الآخر، وتذكر أفعاله الطيبة، في المثل الشعبي المشهور قالوا: “لا تروح كتير عبيت أمك وأبوك بكرهوك”.
والكراهية المقصودة في المثل لا تحمل معناها الحقيقي، إنما المراد أن الحضور الدائم لشخص ما مع أهله وأصدقائه يتيح الفرصة أكثر لمعرفة عيوبه ورؤيتها بشكل أوضح، فيأتي الغياب لبعض الوقت ليعيد المشاعر إلى نصابها حيث تتألق في عيوننا حسنات الغائب فنشتاق إليه ونسعى لحضوره.
من هذا الباب جاءت الوصية النبوية في قول النبي الكريم: “زر غبا تزدد حبا” ومعنى الحديث أن اللقاءات القليلة الدائمة أفضل، فهي تقوي التواصل وتزيد الحب وتترك المجال واسعًا للاشتياق.
وهذا التوازن نراه في حياة المسلم حتى في علاقته مع الله عز وجل، ففي الحديث الصحيح، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “خير العبادة أدومها وإن قل”. وبعيدًا عن فلسفة هذه الظاهرة والبحث في تفاصيلها يبدو أننا حقًا لا ندرك قيمة ما لدينا إلا في حال فقدانه، تمامًا كما وصف أحد الحكماء شعور العافية بأنه تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.