د. أحمد لطفي شاهين – فلسطين المحتلة |
في سنة 1974 قامت فتاة روسية اسمها “مارينا إيراموفيك” بعمل تجربة أخلاقية اجتماعية في منتهى الغرابة بهدف التعرف على سلوكيات البشر عندما تتاح لهم فرصة الحرية بلا شروط ولا قيود ولا ضوابط أخلاقية، وكانت تجربتها تتمثل في أن تقف لمدة 6 ساعات متواصلة كأنها تمثال، وأن تضع بجانبها طاولة عليها سكين وسلاسل ومسدس وورود وأقلام وأشياء كثيرة، ووضعت لافتة مكتوب عليها (افعلوا بي ما تريدون) ووقفت صامتة كالصنم وكان معها فريق للمتابعة والتصوير من بعيد، وبدأت التجربة وتأملها الجماهير في الساعة الأولى بشكل حضاري وراقٍ بشكل أعجبها جداً لم تكن تتوقعه كما قالت فيما بعد، ووقفوا أمامها متأملين وتعمَّد بعضهم تكرار المرور من المكان نفسه للمتابعة ولحاجة في نفس يعقوب، ثم حصل ما لم تكن تتخيله على الإطلاق وبدأ البعض في الممارسات التي لم تكن تتوقعها “مارينا” أبداً وعندما وجد الجمهور أنها لا تقوم بأي ردة فعل تجاه ممارساتهم ازدادت حِدة الممارسات اللاأخلاقية وتطورت إلى أشكال عدوانية، فقام الجمهور بتمزيق ملابسها وتعريتها بشكل شبه كامل، وبعضهم خدشها بالسكين، وبعضهم كتب على جسدها بالأقلام، وبعضهم طعنها بالقلم بقسوة، ومنهم من وضع السلاسل على رقبتها ووضعوا عليها الورود بشكل عنيف، حيث الصقوا أشواك الورود ما بين جسدها وما بين السلاسل، وجرحوا جسدها بأشواك الورود، وبعضهم حاول طعنها بالسكين، واحدهم سحب المسدس وأراد أن يطلق النار على رأسها لولا تدخل أحد المتابعين للتجربة، والبعض تحرش بها، وتجمهر حولها الناس بشكل لا أخلاقي وعدواني ولا إنساني، وبمنتهى الشماتة وهم لا يعرفونها ولا يعرفون هدفها من كل ما يحصل، وفجأة وبعد ست ساعات من الوقوف والصمود على كل تلك الممارسات تحركت لتلملم نفسها، فهرب الجمهور بشكل غير متوقع أيضًا، كأنها عقدة الذنب والخجل من النفس، وكتبت “مارينا ” ملاحظتها عن هذه التجربة وهي ملاحظة خطيرة جداً حيث قالت:
“لقد صدمت من هذا المجتمع، واكتشفت أن البشر الذين نتعامل معهم يومياً مهما اختلفت أعراقهم وأجناسهم، عندهم استعداد لارتكاب أفعال شنيعة لو أُتيحت لهم الفرصة طالما ليس عندهم وازع أخلاقي داخلي، وهذا ما يجعلنا نقول: إن السلطة بحاجة إلى القوة دائمًا لتعزيز وجودها وأن الحرية لا يمكن أن تمنح بصورة مطلقة دون رادع أو قانون أو نظام أو وازع أخلاقي داخلي.”
تعليقي أنها تجربة فريدة من نوعها وغريبة جداً، لكنها مفيدة كمعيار لتقييم أخلاق المجتمعات، وما يمكنني أن أستخلصه من كل تلك التجربة هو كلمة (وازع أخلاقي داخلي) ولو طلبوا منا أن نقوم بتقييم هذه التجربة فسوف نستهجن هذه السلوكيات وهذه التصرفات كأننا لا نخطئ أبداً، وكأننا أنبياء ومُقدّسين وكلنا سيهاجم ذلك المجتمع لأن تصرفاته مشينة، وكأننا في مجتمعاتنا بلغنا درجة الكمال المطلق. كثيرون أُولئك الذين يعتقدون أنهم معصومين ولا يخطئون أبداً، وأن كلامهم حق مطلق لا يقبل الجدل، بل ويتفننون في انتقاد كل شيء حولنا.
لماذا كل واحد منا يعتبر نفسه مقياسًا للصلاح والتقوى ولا يرى عيوبه؟!
لماذا لا نعترف بأخطائنا ولا نعترف أننا لا نمتلك الكمال الأخلاقي المطلق؟! لماذا لا نعترف أن الكمال لله تعالى فقط؟!
إن أحد أخطر أسباب مشاكلنا أن كل واحد منا يعدُّ نفسه نموذجًا وقدوة ولا يرى نفسه بموضوعية، رائع جداً أن تكون قدوة ونموذجًا طيبًا، لكن هل أنت فعلاً نموذج طيب؟! هل أنت صاحب أخلاق طيبة فعلاً؟!
هل أنت تتبع الحق الذي قرره الله تعالى وأنزله من السماء أم أنك تتبع الحق الذي تعتقد أنت أنه حق؟
تساؤلات خطيرة أتمنى أن نوجهها لأنفسنا ونحاسب أنفسنا جيداً حتى تتحسن تعاملاتنا.
إن 90 % من الأحكام الشرعية الإسلامية تتعلق بالمال وبالنساء وهذين الأمرين هما أساس الأخلاق في المجتمعات كما أن ديننا الإسلامي نصفان، نصف عبادات ونصف معاملات، ومعظمنا للأسف الشديد فاشلين في النصفين، فلا نجحنا في هذا ولا في ذاك، فالكثير منا لم يعبد الله حق عبادته كما أمرنا، ولم يتعامل مع الآخر بأخلاق الدين الراقية.
ما يمكن أن تبحث عنه ستجده في القرآن الكريم والسنة النبوية والتاريخ الإسلامي من أخلاقيات وقصص منتهى الروعة والجمال والرقي الأخلاقي والرحمة والأدب والإنسانية والصدق والإيثار والكرم والمروءة والحب وكل القيم الأخلاقية الراقية التي يحاول البعض تشويهها من خلال التيارات المتطرفة التي شوهت سمعة الإسلام.
إن من أخطر مظاهر الفقر الأخلاقي في مجتمعاتنا هو (الوقاحة) فالمفروض على من يُخطئ أن يعترف بخطئه وأن يعتذر وأن يحاول تصحيح أثر الخطأ، لكن المصيبة أن يخطئ البعض ويرفض الاعتراف بأنه أخطأ، بل تبلغ به درجة الوقاحة أن يعتبر نفسه على الحق وهذا ما يطلق عليه البعض كلمة (الكفر عناد) لكنها الوقاحة بعينها، فالعناد أحيانًا إيجابي ومطلوب، ولولا عناد الشعب الفلسطيني مثلاً في صراعه مع الاحتلال الصهيوني لذابت الهوية الفلسطينية منذ عقود، والمعروف عن أبنائنا المعتقلين في سجون الاحتلال عنادهم وروح التحدي التي تجبر السجّان على الرضوخ لإنسان عنيد يضرب عن الطعام ويموت لأجل الحصول على الحرية، فالعناد المؤدي للانتصار والصمود هو شيء إيجابي في أحيان كثيرة، لكن الوقاحة هي المرض الذي يجب علاجه.
إن من أسوأ مظاهر غياب الوازع الأخلاقي الداخلي حالياً هو ما يحصل في عالم الإنترنت والتواصل الاجتماعي حيث تحصل كل الخيانات وكل صور الخداع كأنها وجبة سريعة وسهلة وحلال ومباحة، فلا حدود للتعبير ولا حدود للعلاقات ولا للتواصل، فكل إضافة أو متابعة من الجنس الآخر تعدُّ عند كثيرين فرصة للاستثمار العاطفي وتمثيل دور المثالية فيما يمكن تسميته المشاعر الإلكترونية (تماشياً مع التطور) حيث تم تشويه مفهوم الحب الحقيقي وأصبح تبادل كلمات الحب والعشق في منتهى السهولة، فلا رقيب ولا حسيب ولا وازع داخلي أو خارجي من كلا الجنسين (بنفس الدرجة) للأسف، فالكل يبدو أنه شاعر مرهف الحس وينشر عذاباته وآلامه وكلماته الحساسة لجذب الانتباه ولكسب التعاطف وعندما تتواصل معه تعتقد أنه كاتب بارع وإمام مسجد ويتصدر للإفتاء ومحلل سياسي، وتدخل صفحته الشخصية فتفرح وينشرح قلبك لهذا الرصيد الأخلاقي النادر في صفحته، وفي أول مواجهة أو مقابلة مع ذلك الشخص تسقط كل الأقنعة ويظهر ذلك الشخص على حقيقته الكاذبة ويتبين لك واضحاً الوجه الآخر الذي كان يخفيه، وتكتشف أنه كان يتستر بالفضائل لهدف رخيص، إنه عار على الإنسانية أن نكون كذلك. فالمفروض أن تكون أنت نفسك في كل مكان وزمان وفي كل وقت، وألا تختبئ خلف اسم مستعار، المفروض أن تكون صريحاً وواضحاً كما أنت في كل مكان، وأن تكون الشخصية نفسها داخل الإنترنت وخارجه، يجب أن يكون الوازع الأخلاقي الداخلي موجوداً في كل مكان وزمان.
1 تعليق
Pingback: كيف نرتقي بأخلاقنا (2) | صحيفة حبر