ليس في المستطاع فهم كيف يمكن أن يعمل إنسان بالغ عاقل بدوام كامل “ذبابة إلكترونية”، يتقاضى راتبه نظير تسميمه الفضاء الإلكتروني المفترض أنه مساحة حرة للتعبير عن الأُفكار وتبادل الآراء والاطلاع على خبرات بعضنا بعضا. ويلخص أحد الخبراء في ملف استئجار الذباب الإلكتروني الوصف الوظيفي للعمل ذبابة إلكترونية بشتم من يكره الحاكم وتخوينه، تشويه صورة المعارضين، وتهكير حساباتهم وعمل مجازر إلكترونية مروّعة، تنتهي بإغلاق حساباتهم أو تعليق العمل بها.
ولكن يبدو التساؤل مشروعا: ما الذي تريده الأنظمة العربية، وأجهزتها المخابراتية، جراء تشغيل هذا العدد الهائل من الشباب والشابات، وربما الكهول أيضا، في وظيفةٍ بائسةٍ كهذه؟ ليبدو الجواب المباشر: ملاحقة الأفكار الحرّة التي فرّت برأيها إلى العالم الافتراضي، بحثا عن مساحةٍ من الحرية، بعيدا عن السجون العربية التي باتت المصير المحتوم لأي عربي قرّر عدم تأجير دماغه للحاكم، فكل حر هو معارض، وكل معارض هو إرهابي بالضرورة، وفقا لقوانين مكافحة الإرهاب في العالم العربي.
“إعلام القطيع” الذي تريد نظم عربية ترسيخه، تطبيقا لـ “ثقافة القطيع” يتطلب مطاردة كل الآراء ومصادرتها، حتى من فرّ برأيه إلى العالم الافتراضي. ولا تتوانى في سبيل تحقيق ذلك عن مطاردة “التوتيات” و”البوستات”، وأي هاربٍ من ضيق عالمهم إلى فضاء العالم الافتراضي وسعته.
الغريب، والذي يستحق التساؤل عنه، هو كيف يصبح عالم دين موظفا على “تويتر”، يتلقى توجيهاتٍ من الدولة وأجهزتها المخابراتية، ليشتم باسم الدين ويكفّر، فيما يجلس صحافي آخر أو ناشط ثماني ساعات أمام جهاز اللابتوب، يكتب أخبارا وتقارير أمنية، وفقا للتكليف الذي يصل إليه، وكيف أجّر مئات الآلاف من الشباب والشابات عقولهم لوكلاء تلك الأنظمة، فعوضا عن أن تستثمر تلك النظم في هذه العقول الشابة، تقوم بتدميرها، عبر متعاقدين من الجهلة والأميين، يشغّلون شبابا وشاباتٍ في ريعان العطاء “ردّيحة” ينتظرون أوامر بالشتم أو بعمل “ريتوت لشتيمة مكتوبه بقلم المحرّر الأمني”.
ظاهرة “الغزوات الإلكترونية”، إن صح التعبير، يرعاها جيل من المسؤولين العرب ومريديهم الذين جاؤوا مبشّرين بالإصلاح والتحديث، كثير منهم درس في الغرب أو هو معجبٌ بتجربته. ولكن هل الديمقراطية الغربية التي يحاكونها هي ديمقراطية الذباب الإلكتروني؟
أعيش في الغرب، وفيه أكملت الماجستير، ورأيت مستوى النقاش في الجامعات، كما أشاهد يوميا حرية الصحافة التي لا تغيب عن صفحتها الأولى انتقادات لرئيسة الوزراء في بريطانيا مثلا، إضافة إلى “السوشيال ميديا” عموما، والتي هي فضاء حر للمجتمع والساسة، مع إعلام راقٍ وثري بالمعلومات والأفكار والنقاش السياسي المعمق، فلماذا يترك أمراء الجيل الجديد و”حداثيو” العرب كل تلك السمات، ولا ينقلونها إلى شبابنا وشاباتنا، بل عوضا عن ذلك يجلبون لشعوبهم فقط أفكارا غبية، من قبيل “الذباب الإلكتروني” “وشبيحة فيسبوك وتويتر”، وعلماء دين أشبه بعلماء فترة الضلال الأوروبي في عصر التيه الديني.
ليت من يعمل “ذبابة إلكترونية” يدرك أنه يسيء لسمعة الذباب أصلا، فبعمله القذر في تسميم الفضاء الإلكتروني يشوّه سمعة الذباب الحقيقي، ووظيفته الأساسية في تنقية الكون وتخليصه من الآفات الملوثة للبيئة، فالذباب يؤدي وظيفة شريفة، إذ يشكل مصدر غذاء لعدد من الطيور الصغيرة، كذلك تتغذى عليه بعض أسماك المياه العذبة، وبعض الحشرات والعناكب، كما يلعب دورا مهما في تخليص البيئة من الحيوانات النافقة. أما الذباب الإلكتروني فيقوم بوظيفة غير شريفة، ببثه الأفكار النافقة، والتحوّل مصدرا أساسيا في تسميم العقول العربية.
المصدر: العربي الجديد