بالتأكيد تراجع الثورات لا يعني أن الجهد الذي بذل لم يحرك مجتمعات الربيع العربي خطوات باتجاه الهدف المنشود، بل ثمة تطورات مهمة جرت في الوعي والواقع تصب في اتجاه تحقيق التحول نحو مجتمع ناهض، لكن ثورات الربيع العربي أظهرت وعورة الطريق وتعدد العقبات، وهذا يتطلب فهم طبيعة القصور الحاصل ووضع المجريات الأخيرة في سياق سيرورة النهضة المنشودة.
النهوض انتقال من حالة اجتماعية تتصف بالجمود والقهر والظلم والتسلط، إلى حالة اجتماعية تتصف بالحيوية والفاعلية والتطور والتعاون والإبداع والمبادرة. هو انتقال من واقع يتصف بالجمود والتخلف إلى حال يتصف بالحيوية والتطور، ومن ثقافة التقليد والخنوع إلى ثقافة الإبداع والنهوض.
الثقافة الناهضة تنضوي على العديد من العناصر، ويمكننا من خلال نظرة مقارنة إلى القواسم المشتركة بين الثقافات الناهضة التي ولدت حضارات شامخة عبر التاريخ أن نميز عنصرين رئيسيين هما:
(1) القدرة على توليد تضامن داخلي يتمثل بتعاون أفراد المجتمع الناهض وتلاحمهم وتكامل جهودهم.
(2) القدرة على تحرير الطاقة الخلاقة المبدعة للفرد والجماعة، وبالتالي تمكينهم من تطوير حياتهم وأدواتهم وزيادة فاعليتهم.
وفي الجهة المقابلة فإن الثقافة الهابطة، ثقافة التخلف، تتميز بخصيصتين:
(1) تشرذم أفراد المجتمع وتشاكسهم وتبدد جهودهم، وغياب كامل للاهتمام بتطوير الإنسان والحياة العامة.
(2) تكبل إرادة أبناء المجتمع وعقولهم بأغلال القهر والاستبداد السياسي والتعسف الفكري.
السؤال الذي يهما هنا هو كيف يتم هذا الانتقال؟ كيف يتحقق التغيير من الناحية العملية والإجرائية؟ كيف يمكن لأفراد متفرقين أن يجتمعوا ويتعاونوا للقيام بالانتقال والتغيير؟
التحدي الذي يواجه مشروع النهوض مزدوج، ويتجلى في تحويل المبادئ إلى قناعات تؤثر في سلوك الفرد، كما يتجلى في نوعية الحياة المشتركة، وبالتحديد في تحويل هذه القيم من شكلها الكلي المطلق إلى أشكال اجتماعية جزئية تتعلق بمنطقة جغرافية خاصة وبسياق زمني تاريخي محدد. هذا التحول يجب أن يأخذ منحيين:
- تحديد مقاصد الأفعال والنصوص، بالانتقال من السياق الجزئي التاريخي إلى المبادئ الكلية، وعدم الاكتفاء بالأشكال والمعاني الظاهرة.
- تحويل القيم الكلية إلى قناعات وعلاقات ومؤسسات وممارسات، ذلك أن القيم الكلية يمكن أن تتحول إلى خطاب حالم طوباوي دون أن يكون لها أثر على الواقع.
قدرة القيم الكلية على تغيير الواقع يتوقف على تحولها إلى نماذج عملية، أي إلى علاقات ومؤسسات وآداب وحقوق وعادات. بعبارة مكافئة، تحولها إلى ثقافة حية ناهضة.
هذا لا يعني بالتأكيد أن كل فرد في المجتمع سيتحول إلى إنسان ملتزم بالقيم الكلية المشتركة. هذا غير ممكن وغير ضروري لحدوث تحول ثقافي. المطلوب هو وجود كتلة حرجة داخل المجتمع ملتزمة بتلك القيم ومنافحة عنها.
التغيير يتطلب تولد رؤية حضارية وتزويد المجتمع برسالة إنسانية تفسر مشكلات الواقع القائم وأسبابه، وتقدم تصورا لكيفية الخلاص منه والتحول إلى واقع جديد ناهض، وخلق تضامنات داخلية تسمح بتعاون الأفراد للوصول إلى الواقع الجديد. أهم عناصر هذه الرؤية هي المفاهيم والقيم التي تولد التضامن، مثل قيم التعاون والتراحم، وتقدير أهمية الإبداع والاختلاف، واحترام الرأي المخالف. هذه القيم كلية مشتركة بين الناس، وهي قيم تؤكدها معظم المجتمعات الإنسانية والديانات السماوية في صيغتها الكلية، قيم التعاون والعدل والحرية والمساواة والرحمة والإبداع.
المثقف هو حامل الثقافة وصانعها، وهو الفرد الذي يدفعه اهتمامه بالشأن العام واستجابته لمسؤولياته الوجودية إلى فهم تركيبة المجتمع وآليات حركته وطبيعة العلاقات القائمة. فهو المفكر والكاتب والصحفي والناشط الاجتماعي والناشط الحقوقي والناشط السياسي. هو الروائي والإعلامي والأديب والشاعر والفنان والمخرج والمسرحي والممثل. هو الذي يمتلك القدرات التحليلية لفهم الواقع، والقدرات التركيبية لتجاوزه انتقالا لواقع أفضل.
التغيير الثقافي يتطلب أن تتحول جهود المثقفين إلى حركة فكرية تواكبها حركة اجتماعية، تسعى إلى تطوير العلاقات والسلوكيات من خلال تغيير القناعات من جهة، وتقديم نماذج ناجعة تحفز الأجيال الجديدة للمشاركة في عملية النهوض والتغيير. المشروع النهضوي هو مشروع حضاري، بمعنى أنه ليس عملاً فكرياً يمكن لمفكر متميز إنجازه ضمن كتاب أو سلسلة من الأبحاث، بل هو عمل شاق متشعب ومديد يتطلب حركة ثقافية واسعة.
جهود الإصلاح والنهوض تتطلب حركة فكرية تعيد قراءة المصادر المعيارية في سياق المجتمع المعاصر على أسس قيمية ترفع من قيمة الإنسان وأداؤه، لا أسس حصرية تميز بين الناس بناء على الشعارات التي يرفعوها والجماعات التي ينتمون إليها.
الربيع العربي أنجز خطوة مهمة في سيرورة النهوض، وذلك بإضعاف دولة الاستبداد، وتحرير شريحة واسعة من أبناء المجتمع، لكن المشوار لا زال طويلا والخطوات عديدة، ولا زالت الغشاوة تحيق بمسار الحركة المستقبلي وشكل المجتمع المنشود. فالنهوض ليس جهدا ينجزه جيل أو جيلين، لكنه سيرورة تتطلب تضافر جهود أجيال عديدة، يضع عبرها الجيل الماضي الجيل التالي في نقطة أكثر تقدما من النقطة التي بدأ هو مسيرته منها. جهود النهضة لن تتوقف بسبب نجاح الثورات المضادة في وقف حركة المجتمع نحو هدفه، ولعل الربيع العربي أظهر قصور مشروع التنمية الفئوي. لكن المضي في المشروع الحضاري سيتطلب حركة فكرية واضحة تواكب حركة المجتمع، وتضيء له الطريق نحو المستقبل الواعد الذي تتنظره الأجيال الفتية وتتعطش لتحقيق المجتمع الناهض والفعال.