عفاف جقمور |
في حديث عابر مع إحداهنَّ أكّدت لي بأمثلة متعدّدة أنّها لا تحبّ الخوض في السّياسة، وأنّها بعيدة كلّ البعد عن مواضيعها، تَلتها سلسلة تذمّر عن عدم استطاعتها إيجاد عملٍ مريح، وسآمتها بسبب تدهور عمل زوجها، دون أن تجد رابطاً منطقيّاً بين هذين الشعورين!
في الجامعة ومكان العمل، في مجموعات فيس بوك وواتس آب، يؤكد القائمون عليهم عدم خوض أفرادها في السياسة أيضاً، وأن هدف تجمّعهم عمليٌّ أكاديميٌّ علميٌّ فكاهيٌّ أيّاً يكن؛ لكن دون الاقتراب من ذلك الحرز، ما يجعل المرء يعتقد أن للسياسة قواعد وحدودًا؛ أو ربّما غير متاحةٍ للجميع.
الطريق المؤدّية إلى البيت ليس مستوياً بما يكفي؛ تتناوب فيه الحجارة والحفر، لكنّه يُحجم عن الحديث عن بلديّة الحيّ وإمكانيّات إصلاح الأضرار تلك، يصطحب ولده اضطراباتٍ نفسية مع أكوام الصفعات والإهانات التي ينالها يومياً من معلّمته، لكنّه يحجم عن الحديث عن تلك المعلّمة ونظامها التربوي الذي يتيح لها التصرّف في دوائره بهذا المنطق، بينما يكتفي بالحوقلة والدّعاء بالهداية في كلا الموقفين.
تخرج أنت صباحاً لتجد أرتالاً من السيّارات في طريقك إلى عملك فتصل متأخّراً؛ إذ إنّ المواصلات الداخلية المزدحمة ليس من السّهل تأمينها، وقد يتطّلب شراء السيارة ضريبةً تتجاوز مرتّبك بأضعاف، الأمر الذي يحتاج جهداً يفوق الراحة التي يمكن أن تنعم بها بتلك السيّارة، أولادك في المدارس الحكومية يتطلّب إكمال تعليمهم دروساً خاصة، ووظيفتك بالكاد تكفي لشراء لوازم البيت وأجاره؛ لكن رغم كل ذلك عليك ألا تتحدث مطوّلاً في هذه الأمور كي لا تقع في الحديث، بقصدٍ أو بدونه، عن السياسة!
في دول العالم الثالث تصنيفاً والمتأخرة عن ركب الحضارة عُرفاً؛ تقتصر الأحاديث السياسية على التذمر بين الأصدقاء المقربين فقط، قد تترافق مع مشاعر مختلطة بالخشية من الاعتقال أو عدم الجدوى من تلك الأحاديث بسبب الحكم القسريّ المفروض بالحديد والنار، الأمر الذي جعل انفصالاً جذرياً بين القائمين بالأمور السياسة والمتأثّرين بها فعلاً، فيحجم الشّعب عامّة عن التحدث بكلّ ما يمتّ بصلة نحو الشّأن العام ويحصرون أنفسهم في الشأن الخاص، بينما يعمل حاكميهم على احتكار الحديث عن الشأن العام وتحليل مضامينها بما يروق لهم، وتبقى معرفة العامّة ومشاركتها في حدودها الدنيا، تقتصر على الانتخابات لا أكثر!
بين ضفّتين أبحرَ الثوّار ليلاً، كانوا ينوون تغيير ما استطاعوا إليه وإن بَعُدَت المسافة، غادروا مراسيهم لكنّ الطريق كان معتماّ، همساتٌ كانت تلاحقهم قبل الخوض في غمار الثّورة ألاّ تقربوا السّياسة، وازداد الصوت حدةً مع ازدياد سقف المطالب، كسر الثوّار القاعدة ليتصدّوا للشأن العام، لكنّ جهلهم فيها عائقاً أكبر من القرارات التي كان عليهم البتّ بها، إذ غَدَت متطلّبات اليوم هي ذاتها محرّمات الأمس القريب، فأُسقط الشّعب الثائر ومعارضته في أيديهم، وغرِقت الكثير من مراكبهم في بحر المواخرِ ذاك.
ربّما كان مصطلح السّياسة الأكثر تشوّها من قبل معارضيه ومؤيّديه معاً، فيتلوّن حسب مخيّلة حامله، تارة يعتقدونها الصالات الواسعة المترافقة بالأطقم الرسميّة والكراسي المذهّبة، أو السّجاد الأحمر المتمازج مع نغمات أبواق الفِرَق، أو ربّما المؤتمراتٌ الفارغة المندرجة في نشرات الأخبار، ومنهم من يجدها الحدود الشائكة بين الدول والجدران العازلة والقنّاصات المتربّصة بمتجاوزيها، وثمّة من يعتقدها كلّ ما من شأنِه أن يثير حفيظة الدولة الحاكمة بما يدعيها لاعتقاله؛ فالسياسية في نظرهم “كلّ ما لا يريد الحكّام الحديث عنه”.
علامةٌ واحدةٌ فقط كانت سبباً في تحوّل وجهتي في التعلّم من الإدارة إلى السياسة، كنت أمقت ذلك العلم واعتبره علمٌ لا طائل منه متبّعة قول قباني:
صدق السّيف وعده يا بلادي فالسياسات كلها أفيون
لكن خطورة المرحلة، وعدم قدرتِنا على تنظيمِ أنفسِنا، والبحث في الأسباب والمسبّبات جعلتني أتراجع عن النظرة تلك.
“ساس” في اللغة أي دبر الأمور وأدارها، أو حكم الناس وقام بشؤونهم، يجد ميكافيلي أنّها “فن الممكن” ويراه البعض قرارات المجموعة، أو السّلطة أو الدّولة، ويرى روسو وهوبز ولوك أنّها عقداً اجتماعياً متّفقاً عليه يتضمّن الدّولة وأفرادها، بينما يرى أرسطو في كتابه (المرجع الرئيس لعلم السياسة) أنّ الإنسان بطبعه كائنٌ اجتماعي، ويرى الدّولة من عمل الطّبيعة فهي برأيه فوق العائلة، وفوق الفرد، لأن الكلّ هو بالضرورة فوق الجزء وإلا لأمكن للفرد أن يستغني عن الكلّ خارج الجماعة، ببهيميّة غير مدركةٍ للاجتماع، أو إلهيّة مكتفيةً بنفسها.
بعد تفوّق الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وسيطرتهم على دول العالم باسم الأمم المتحدة؛ وتشكيلهم لدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وتوقيع معاهدات سلام واتفاقيّات تدعمها، لم يعد هنالك مكانٌ للحروب العسكريّة في العالم، لاسيّما بعد أن دخل العالم في حرب باردة لسنوات بين قطبي العالم (أبناء العم سام والسوفييت) تصنّعت خلالها القنابلُ الأكثر فتكاً وتطوّرت التّهديدات لتشمل “حرب النجوم” المصطلح الذي ظهر على لسان الرئيس الأميركي “رونالد ريغان” ويقصد به استخدام نُظُمٍ فضائيّةٍ تشمل الصواريخ البالستيّة النوويّة.
اكتشاف الأسلحة النووية وقدرتها على تدمير آلاف البشر في آنٍ معاً، مع ترك آثارها لآلاف السنين، واستطاعتها القضاء على الكوكب برمّته، غيّر وجه العالم، وأصبحت لغة السّياسة واجبة لأنّ المجازر المرتكبة ستقضي على الطرفين معاً، ما جعل الدول الكبرى تلجأُ لاتفاقيّاتٍ ومعاهداتٍ تمنع تصنيع واستخدام تلك الأسلحة للدول الأقل شأناً منها واعتبار السلاح النووي قوة ردعٍ لا أكثر.
قد لا يكون من الضرورة بمكان أن يعلم الجميع تفاصيل السّياسة بذات السويّة، لكن لابدّ للمعرفة أن تتدرّج بينهم من الشخص البسيط إلى أن تصل إلى من لديه طموحات سياسية ويجد في نفسه أهلاً لتلك المهام، وأن تتجاوز الحدود الدّنيا مشاركتهم في انتخابات شكليّة تدعم الدكتاتوريات المسيطرة، وتتجاوز التحليلات التذمُّر والتّطمينات حول آخر الأحداث فقط، فتأثير السياسة المتجذّر على تفاصيل الحياة تُلزم بضرورة معرفتها كي نمتلك عوامل التغيير الحقيقيّة.