دخل المكان وفي يده قطعة بسكويت واحدة فقط، يحملها بيديه الاثنتين كأنها ثقيلة الوزن، قميصه السماوي القديم لا يبدو مناسبًا لعمره، يمضي نحوي باستحياء، ليقف بجانبي ويصمت!!
وجه بريء يمثل أبجدية الطفولة كاملة من الألف إلى الياء، عيناه واسعتان سوداوان فيهما بريق وخوف.
سألته عن اسمه، ردَّ همسًا (أحمد) أثار هذا الطفل في داخلي موجة نحيب صامت شعرت أن قلبي يكاد ينفطر، هل شراء قطعة البسكويت التي ثمنها خمسين ليرة سورية سيفتح له باب الحياة؟!
هل أُسمي (أحمد) بالطفل المتسول؟! هل نحاسب أهله الفقراء لأنهم يدفعونه للعمل بعد المدرسة؟! كأننا نعيش في المدينة الفاضلة؟!
أسئلة راح يجرُّ بعضها بعضًا تسوقني نحو الهاوية التي أخشى أن يسقط بها أطفال المناطق المحررة، ممَّن فقدوا آباءهم أو عائلاتهم بالكامل، وصاروا على هامش الحياة، في حين من المفترض أن تضحك الحياة لهم.
ولكن حال (أحمد) الذي يعمل في بيع البسكويت بعد المدرسة يشبه آلاف الأطفال في بقاع عديدة من هذا العالم الكبير.
ليست عمالة الأطفال بحد ذاتها المشكلة، وإنما تأثير عمل الطفل على تعليمه، واختيار المهنة التي تتناسب مع مفهوم الطفولة الذي ارتفع سقفه حسب مدونة حقوق الطفل العالمية إلى سن الثامنة عشر.
عدد لا يحصى من العائلات المنكوبة تستعين بأطفالها لتأمين قوتها اليومي، ومنع عمالة الأطفال، يعني الحكم على تلك العائلات بالموت البطيء.
بعض المنظمات في المناطق المحررة تدفع لعائلة الطفل الذي يعمل مبلغًا ماليًا يعادل أجره مقابل عودة الطفل لمتابعة تعليمه في المدرسة.
مثل هذا الحل يدعو للتفكير في حلول أخرى بديلة تحاول تطبيق المثل الدارج (لا يموت الديب ولا يفنى الغنم).
وعلى كل حال فإن (أحمد) في نهاية يوم العمل يعود إلى بيت إسمنتي في عمارة لها باب حديدي، أما أطفال المخيمات فليس لديهم بيوت إسمنتية وحالهم أسوء بكثير من حال (أحمد).
أخبرني صديق يعيش في أحد المخيمات أن التعليم والوعي والنظافة والصحة والأخلاق كلها في مستوى منخفض يصل إلى التدني، فالحياة في مدن بلاستيكية، خيمها متلاصقة، لا شوارع فيها ولا صرف صحي، ولا مدارس مبنية من حجر تقي برد الشتاء، حياة بالاسم فقط.
رأيت أحد الأطفال في المخيمات حافيًا، وجهه مكسوٌّ بالغبار، ثيابه متسخة، يحمل كيسًا أسود اللون ويركض نحو مدرسته القريبة.
أنا في أشد الخوف على مستقبل هؤلاء الأطفال الذين سيغدون قريبًا شباب هذه الأمة تعتمد عليهم في نهضتها وإذ بهم بلا تعليم، وبلا مهنة يعتمدون عليها في كسب رزقهم، بينما من هاجر إلى أوربا أو شدَّ الرحال إلى تركيا فإنه على الرغم من ساعات العمل الطويلة وإحساس الغربة القاتل، إلا أنه استطاع أن يبني ما يريد مهما كان بسيطًا.
هذه ليست دعوة للهجرة خارج البلد، إنما دعوة للاهتمام بأهل البلد وخاصة الجيل الناشئ الذي يبحث عن حياة أفضل في وطنه، فلا يجد إلا القليل من الفرص، ولعل مرحلة الإعمار القادمة ستعيد بناء البلد ماديًا وتعيد إعمار النفوس معنويًا.