كثيراً ما تصادفنا الدعوة للحياد والحيادية، في العمل الإنساني أو الرياضة أو النشاطات الاجتماعية، وتتضاعف دعوات الوقوف في المنتصف والحيادية في الأماكن التي تشهد صراعات كبيرة. وكأن الصراع القائم هو صراع مريخي لا علاقة لأهل الأرض به.
لا يوجد من يعيش في عزلة تامة حتى يستطيع ممارسة الحياد، فحتى اللغة التي نتكلمها هي لغة تتبع في معانيها سياقات اجتماعية ومدلولات ظرفية وتجاورية وتصورات خاصة بنا تمنعها من التعبير عن نفسها بالمعاني الأصلية بحيادية مطلقة، ولن أملّ من ترديد عبارة “أن المنتصف هو جهة ثالثة” لا تنتمي للموضوعية أصلاً لكي تنتمي للحيادية المتوهمة.
فكرة الوقوف على الحياد نشأت ضمن فرضيةٍ اعتبرت الصراعات التي تنشأ بين الناس ذات طبيعة تنافسية مصلحية متساوية في أصلها، لا تحتوي على مفهومي الحق والباطل، لذلك يسهل أن يوجد من يقف على الحياد من هذه الصراعات التي لا ناقة له فيها أو جمل كما في المثل العربي السائر.
في كل صراع هناك جانب من الحقيقة وجانب من الباطل، والحياد هو وقوف إلى جانب الباطل، لأن السكوت عن الحقيقة وعدم الإفصاح بها هو إضعاف لها، وتقوية لحجة الباطل.
حتى القاضي لا يكون حيادياً بتاتاً، فهو في الأصل منحاز للحق والعدالة، ويسعى إليهما، ولا يُوقف الضحية والجلاد على سوية واحدة إطلاقاً.
إن الدعوة للحيادية هي دعوة بيع الحق من أجل المصلحة، دعوة للصمت في وجه الطغيان، ودعوة للانسلاخ من الإنسانية من أجل خدمتها! فلكي تتمكن من العمل الإنساني أو الاجتماعي أو تشارك في عرس رياضي عليك ألّا تتخذ موقفاً صريحاً من أحد أطراف الصراع، وعليك أن تتصرف بتقنية وتساعد الجلاد كما تساعد الضحية لأن معايير الأمم المتحدة ومنظمات الحقوق العالمية تنص على ذلك، فالدول صاحبة النفوذ لم تقرر بعد اعتبار المجرم مذنباً، ولأن هذه الدول جعلت نفسها بوصلة الحق، فلا يحق لأحد اعتبار المجرم مذنباً مالم تقل هي ذلك بإجماع مصالحها المتضاربة.
لا أعتقد أنه يوجد في هذا العالم من يستطيع أن يكون حيادياً، فهو لم يخلق بشكل مستقل عن محيطه ليستطيع ممارسة تلك المهمة، حتى عندما يقرر تجاوز الأخلاق، فإنه سينحاز لجشعه، وإن كان لا ينتمي لأطراف الصراع ولا يدري حقيقة حيثياته، فهو منحاز للجهل الذي أغرق نفسه به، فوقف إلى جانب الباطل دون يدري.
أن تكون موضوعياً يعني أن تقف إلى جانب الحق، وأن تكون تقنياً يعني أن تكرس جهدك لخدمة الحق، وأي تجاهل للحق وأصحابه هو وقوف إلى جانب الباطل أو الاصطفاف في جهة ثالثة ترغب في الاستفادة من المعركة عندما تنتهي، أما الحياد والحيادية فشيءٌ لم يخلق بعد.
المدير العام | أحمد وديع العبسي