جاد الغيث |
في أي مكان في العالم لست سوى قطعة صغيرة بحجم اليد! لوني أسود غالبًا، وفي داخلي دائمًا كنوز وذكريات وأفكار وصور وأفراح. لكن عندما أكون موجودًا في حلب الشرقية وصاحبي ناشط إعلامي، فهذا يعني شيء آخر تمامًا؛ لأنني سأغدو حينها مقبرة تحوي آلاف الصور لوجوه الشهداء، بعضها مشوه لا يُعرف صاحبه، وبعضها مبتسمة راضية كأنها اختارت الموت طريقًا أجمل للحياة!!
ستجدون في ملفاتي مقاطع فيديو قصيرة لأفراح شباب بعمر الورد قد يستشهدون غدًا بفعل القصف، وقد تصيبهم شظية من برميل أسدي متفجر فيغدو أحدهم بلا ساق، ويغدو الآخر بلا يد أو قدم!
ولكن الفرح هنا وسيلة ضرورية لمقاومة الموت، فأصوات الزغاريد تغلب أصوات الانفجارات ليلة العرس! إذ لا معنى للهزيمة هنا، الكل سيبقى والجميع يقاوم.
وفي ليلة أخرى صوت البكاء يعلو السماء، نساء أصبحنَ بلا مأوى، خرجنَ برفقة أطفالهنَّ من تحت الأنقاض كأنهنَّ عاريات في شوارع باردة كئيبة! والبيوت يئن قرميدها وخشبها المحطم من هول السقوط، لقد هوت كلها فوق بعضها البعض ولربما ابتلعت كابتلاع حوت جائع جسد رجلين أو طفلين لم يستطع أصحاب الخوذ البيضاء إنقاذهم!!
في صباح اليوم التالي تزاح الأنقاض وترفع الرؤوس للسماء عاليًا مرة أخرى،
رؤوس لا ترضى بالمذلة وترقب من بعيد الطائرة المروحية، يتوجع القلب متوقعًا مكان سقوط البرميل، وتركض الأرجل المتعبة لحظة صفيره مقتربًا من مكان لا وجود له، أو هكذا سيبدو بعد قليل! في داخلي مئات الصور لتلك الرؤوس المرفوعة والوجوه الباكية والأبنية الهاوية.
أكتم حزني الأسود بين طيات ملفاتي، وأختنق وأصرخ فتمتد يد صاحبي إلي،
فأشعر بأصابعه ترتجف وهو يحاول إخراجي من محفظتي الجلدية، يحملني باهتمام كأني كنز ثمين! تدمع عيناه وينبض قلبه بسرعة، لحظات ويعيدني إلى محفظتي ويغلق عليَّ فأعود لأختنق من جديد وأصرخ بصوت أعلى.
البارحة التقط لي صورة، وصلني بجهازه المحمول، لكنه لم يفتح أي ملف من ملفاتي، ضغط على زاوية نشر في صفحته على (الفيس بوك) فنشر صورتي كما ترونها وراح يكتب عني:
(هاردي) الشخصي العزيز على قلبي، احتفظ بداخله ذكريات وثقتها بعدستي على مدى يزيد عن خمس سنوات وأنا في حلب الشرقية.
مظاهرات سلمية، صور لمدينتي قبل أن تُدمر، أعراس للثوار من أصدقائي، صور للقصف، وجوه تائهة، أطفال ما زالوا يضحكون، ذكريات شخصية، أرشيف ضخم للشهداء، مدينتي في أيامها الأخيرة، صور لمعبر الموت وصور لأيام الخروج الأخير.!!
كل شيء أصبح ذكرى في حياتي مرتبطة بهذا (الهارد) الصغير الذي احتوى عالمًا مليئًا بالحياة والمعاناة، عالم لا أقوى على استرجاعه، فكلما اقتربت أصابعي من غلافه تملأ الدمعة عيني ويغصُّ قلبي بوجع كبير..
نعم، هذا أنا.. مجرد (هارد) صغير يصح أن يرسم علي جمجمة وعظمتين، ويختصر وجعي بكلمتين (حلب الشرقية).