فرات الشامي |
تمكنت شعوب الدول الغربية من ممارسة هامشٍ “واسعٍ أو ضيقٍ” من الحريات التي أتاحتها القواعد الديمقراطية، متنقلةً بين صندوق الاقتراع والاحتجاجات السلمية. في حين بقي المجتمع العربي يفتقر إلى ذلك النموذج وإن شابته بعض المآخذ كما يقول البعض.
وبمعنىً آخر، تصبح السياسة حركة ديناميكية متوقعة بين السلطة والشارع، وليست مجالاً محصوراً بين أروقة قصور الساسة كما هو حال القادة العرب الذين اعتادوا اتخاذ القرار وإلزام مواطنيهم به، دون النظر والتفكير باحتمالات “القبول والرفض”؛ فاﻹشكالية لدى القيادة العربية في التراجع، واعتباره فشلاً وضعفاً سياسياً.
بالمحصلة؛ ثمة من يقود بالعصا، وكأنه يسوق القطيع، وثمة على الطرف المقابل من يحكم بمبادئ دستورية ارتضاها، بغض النظر عن مدى صحتها لكنها تبقى محترمةً وحاكمة فوق الجميع.
بطبيعة الحال؛ تمر القرارات واﻹجراءات الحكومية في المجتمعات الديمقراطية عبر دائرة واضحة في إطار ما يسمى بالعقد اﻻجتماعي بين الحكّام والمحكومين، حيث تلزم “ديمقراطيتهم” باتباع قاعدة تنص على الاستشارة قبل اتخاذ القرار، بعد مدارسة لجميع جوانبه اﻹيجابية والسلبية، ومنعكساته على المجتمع، ضمن أصول دستورية تمر عبر أدوات محددة انطلاقاً من “المشرّعين” مروراً بالمنفّذ “الحكومة”، دون إغفال هامش حدوث اضطراب نتيجة الرفض من طرف بعض اﻷحزاب المعارضة، وممارسة هذا الرفض إمّا عبر اﻻحتجاجات أو اﻹضرابات، التي غالباً ما تنتهي إلى مراجعات لنقاط اﻻختلاف التي أدّت للرفض.
ولعل المشهد الفرنسي مؤخراً، وما سمي بحراك “السترات الصفراء”، الذي انتهى إلى تراجع الرئيس إيمانويل ماكرون عن قرارات رفع أسعار الوقود يدفعنا للتساؤل عن تبرير موقفه، هل هو نتاج ضعفٍ وتمسكٍ بالسلطة، أم أنه نتيجةٌ طبيعية لحوارٍ مجتمعي بنّاء، حتى وإن مرّ بغضب الشارع.
فرنسا دولة تحكمها معادلة توازن المؤسسات، وبما أنها تبنت النهج الديمقراطي، فقد أُلزم ماكرون بالتراجع عن قرارته التي ﻻقت صدىً رافضاً لدى الفرنسيين، بالتالي؛ فإن اﻹجابة عن التساؤلات السابقة تجيب عنها قراءة النتائج على اﻷرض.
كما أنّ تراجع “ماكرون” أسهم في ترسيخ عملية الفعل وردّ الفعل داخل المجتمع الفرنسي وبأدوات ديمقراطية، بين أطراف العقد اﻻجتماعي، الممثل باﻷحزاب والممثلين عن السترات الصفراء.
لنكون بذلك أمام قيمٍ راعت في النهاية مصلحة فرنسا، ومكانتها بين الدول التي تنتهج الديمقراطية، بعد أن كادت أو تجاوزت الحالة اﻷمنية الحدود المسموح بها (لديهم)، خاصةً في العاصمة باريس.
وبعيداً عن الخوض في تفاصيل وخلفيات اﻻحتجاج؛ فإن ما يهمنا نحن الشعوب العربية أن نضع أمامنا النقاط التالية:
كشفت اﻷحداث في فرنسا أنّ الديمقراطية غالباً ما تكون مشوهة، لكن مع وجود ضوابط مؤسساتية تعيد اﻷمور إلى نصابها، ضمن ما يمكن أن نصفه بلعبة الشّد والجذب في عملية الحكم وصناعة القرار.
اﻷزمة الفرنسية كشفت عن حالة صحية اجتماعياً؛ تسير وفق قاعدة “التدافع”، التي يعبر عنها بجدلية الرأي والرأي اﻵخر.
إن أساس عملية تداول السّلطة هو ذلك الفضاء الذي تتيحه الديمقراطية لممارسة جدلية الرأي والرأي اﻵخر.
بالتالي؛ يصبح مقياس النجاح والفشل إدارة عملية التفاوض، وليس التراجع عن القرارات التي تأخذ طابعاً “مقدساً” في عالمنا العربي.
إذاً ديمقراطيتهم تعتمد على التفاوض، بينما تعتمد ديمقراطيتنا على الطابع القدسي الذي ﻻ يحتمل النّقد والمراجعة.
ويمكن تبرير الحالة العربية ببساطة على أنها نتاج منطقي لغياب وتغييب الرأي العام عن المشاركة في صنع القرار، هذا فضلاً عن غياب المؤسسات التي تدير مفاصل الدولة بداية من النقابات وصولاً إلى الحكومة، مروراً بالبرلمان.
يعود بنا المشهد الفرنسي إلى الواقع السوري في بدايات الحراك الشعبي السلمي المعارض، حيث صوّر إعلام النظام المحتجين على أنهم أدواتٌ لأجندات خارجية، فكانت اﻹشكالية التي أدت إلى الصدام بين الشارع والسلطة التي ارتضت لنفسها دور اﻹله الذي ﻻ يخطئ، بالتالي؛ يستحيل أن تراجع نصوصه وآيات حكمته. وفي أحسن الحالات رأينا-داخل مجتمعاتنا العربية- كيف انتهى مفهوم المجادلة للحاكم بذريعة الخشية من تعريض أمن الدولة للخطر، باعتبار أننا دول مواجهة مع الكيان الصهيوني!!
بالمختصر، آلية الحوار المجتمعي إحدى أدوات احتواء اﻷزمات؛ فالمقدس ليس صانع القرار، وإنّما حق المواطن في التعبير عن رأيه، كما أنّ عملية التراجع والمراجعة فوق طاولة التفاوض دليل نضج اجتماعي سياسي في آنٍ واحد.