جاد الغيث |
كنتُ مندهشة لأعداد الناس التي تحشر في داخلي خاصة في ساعات الذروة، موظفون وطلاب جامعة وتلامذة مدارس، نساء وأطفال، مقاعدي الصفراء لا تتسع ليجلس عليها جميع الركاب، لكن العلاقات المتأرجحة المبعثرة على جانبي كانت تساعد الأكف الممسكة بي على الثبات في المكان والتوازن بعض الشيء، خاصة حين أنعطف بين الطرقات الرئيسة المزدحمة، وأشاهد تفاصيل الحياة الغنية لشعب سورية الذي لا هم له سوى الكفاح من أجل لقمة العيش.
أتيتُ من (الصين) ودخلت الأراضي السورية لأول مرة عام 2009، وذلك بعد اتفاقية تجارية وقعها رئيس الوزراء السوري الأسبق (ناجي عطري).
كان لوني الأخضر كأنه دعوة غير مباشرة للحفاظ على البيئة، وكنت رمزًا للتفاؤل، لم يخطر ببالي يومًا أن أغدو رمزًا للتهجير ومستودعًا للقهر وشاهدًا على أقسى مرحلة مرت بحياة السوريين.
أسوء أيامي وذكرياتي حين اجتمعنا أنا ورفيقاتي على شكل طابور طويل يبدو بلا نهاية، وحولنا بشر موجعون، من كثرتهم ظننت أنهم أكثر من مليون إنسان!
كان ذلك في الأيام الأخيرة لعام 2016 وكانت حلب الشرقية تلفظ أنفاسها الأخيرة، البرد شديد لا يحتمل، واللون الأبيض كان يغطي كل شيء حولي، الثلج يتساقط والقلوب ترتجف.
قبل ذلك كانت مشاعر حقد وبغض تنتابني وأنا أنقل (شبيحة النظام) إلى مواقع المظاهرات بغية قمع المتظاهرين ونقلهم من خلالي إلى الأفرع الأمنية.
من داخلي سُربت لقطات فيديو وصور دامية لتعذيب المتظاهرين على يد قوات نظام الأسد، كنت أغمض عيني حتى لا أرى، ولم يقتصر عذابي على تلك المشاهد المؤلمة، بل ازداد واشتد خلال سنوات الثورة الأولى، فالشخص المكلف بقيادتي عنصر من (أوسخ) عناصر الأمن، يشتمني ويضغط على مكابحي بحقد وقوة حتى أكاد أموت غيظًا وقهرًا.
عبارة (حافلات التهجير) ظهرت منذ عام 2014 مع تهجير أهالي حمص القديمة إلى ريف حمص الشمالي، ولاحقًا صارت (حافلات التهجير) عنوانا رئيسًا للصحف ونشرات الأخبار في سورية والعالم أجمع.
شريط الأخبار على شاشات التلفزة يمرر عناوين تقلع القلب من مكانه، ويرسم صورًا مشبعة بالذل والقهر عبر كلمات منها: (انطلاق حافلات التهجير من ريف القنيطرة إلى الشمال، 100 حافلة تقل مقاتلي درعا باتجاه إدلب، حافلات التهجير تُقل مواطني جنوب دمشق ….) وعناوين أخرى كثيرة لمأساة بدأت ولم تنتهِ بعد..
عذاب جديد أفزعني خلال تهجير سكان الغوطة الشرقية، لسوء حظي كنت أنا وأربعة من رفيقاتي فقط باللون الأخضر، بينما كانت (100) حافلة بيضاء (بولمان) تستعد لنقل المهجرين من غوطة دمشق.
يوم مرير تفاصيله لا تحمى من ذاكرتي، بعض الموالين للنظام راحوا يقذفون الحجارة على زجاجي كنوع من الانتقام، هم لا ينتقمون مني شخصيًا، لكن ينتقمون من أناس أرادوا أن يكونوا أحرارًا فحسب! كم كانت تؤلمني تلك الحجارة وتزيد من وجعي، لكن ما جرى بعد ذلك كان أقسى وأشد ألمًا، لقد أجبرني سائقي على الرجوع إلى الخلف، ما أسفر عن كارثة وضحايا أبرياء، لقد قتل حينها نساء وأطفال في الوقت الذي راح فيه مقاتلو المعارضة يطلقون عليَّ الرصاص وعلى سائقي، الشتائم والصراخ انهالت عليَّ كالمطر، إذ اتهموا سائقي بأنه (شبيح) فقام بدهس المهجرين عمدًا، بينما اعتبر البعض أن ما حصل خطأ غير مقصود!
نعم، أنا حافلة خضراء بلا مشاعر، رديئة الصنع، وكثيرة الأعطال، لكن قلبي الحديدي لا يسمح لي أبدًا بدهس الأبرياء!
وصوري الموجعة التي ملأت الدنيا يومًا ما ستبقى شاهدًا حيًا يروي للأجيال القادمة حقيقة ما جرى في سورية من ظلم وقهر واستبداد.