فرات الشامي |
شكّل قرار الرئيس اﻷمريكي، دونالد ترامب، حول اﻻنسحاب من سورية هزّةً سياسيةً داخل الولايات المتحدة اﻷمريكية ذاتها، اﻷمر الذي دفع بعددٍ من المحللين للكلام عن مواقف الرجل الذي عُرف خلال الفترة الماضية بالطيش والعنجهية، ومقاربتها مع الشخصية الفنية المتعجرفة ذات الشفة المتدلية.
عموماً، “واشنطن ﻻ يمكن أن تخرج خاسرة”؛ في ميزان التجارة العسكرية التي تمارسها بالتوازي مع نهجها السياسي المرن إزاء المعضلات، هذا ما تعلمناها تاريخياً، ودفعنا، نحن العرب، ضريبته في العقود الطويلة الماضية، لكنها اليوم على عكس العادة “تركت الجمل بما حمل” لتتقاسمه موسكو وطهران ومعهم أنقرة التي صرخ ترامب على سماعة هاتفه حين تحدث إلى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، “سورية كلها لك”.
المشهد السابق يعيد التأكيد أن الدولة السورية، لم تعد ذات سيادة وطنية كما يتشدق اﻷسد، وكما تدعي “المعارضة الهشة”، بل يزيد مع الوقت التأكيد أنها منطقة صراع مستقبلي، تعيش فوق فوهة بركانٍ ساخن، تستعد لمزيد من اﻻحتمالات والمفاجآت الصادمة، فضلاً عن إمكانية اعتبار القرار نقطة تحول في خريطة المجتمع الدولي وعودة القطبين الروسي-اﻷمريكي إلى الصراع على النفوذ مجدداً، بحروب باردة تفرض واشنطن شروطها ومعادلاتها بنفسها، ويستجيب الدب الروسي إليها مرغماً ساقطاً في وحلها.
والواضح أن قرار اﻻنسحاب من سورية ليس تغيراً في خريطة السياسة اﻷمريكية، بل منسجماً مع مرونتها، فقبل أسابيع بدأ التلويح ﻻنسحاب نصف القوات العسكرية اﻷمريكية من أفغانستان، وإعلان حركة طالبان والقاعدة شبه انتصارهما على خلفية ضرباتٍ ميدانية تكاد تلتهم مساحة جغرافية واسعة من يدي التحالف الدولي هناك؛ ما يعني أن خطوات واشنطن ليست اعتباطية البتة. كما أنها ﻻ تندرج إﻻ ضمن باب خلط المزيد من اﻷوراق على المسرح السوري واﻹقليمي، وسحباً لعنق موسكو وإيران إلى أسفل القاع، مع بوادر انفراج وتفويض أمريكي أو لنسميه “صكاً على بياض” للطيب أردوغان للتعامل مع المنطقة التي بات مسيطراً عليها، ﻻ سيما بعد رفع الغطاء السياسي عن اﻻنفصاليين اﻷكراد، وفتح ممرٍ للعملية العسكرية التركية على “قسد”. بمعنىً آخر واشنطن دفعت بأنقرة إلى مواجهة بمفردها مع موسكو ﻷنها ترفض الخسارة مالياً وعسكرياً.
وفي الوقت الذي كان الجميع يتطلع للتسابق لملء الفراغ، بدا أن أنقرة لم تسلم من الغزل اﻷمريكي الفج، الذي سيضعها قريباً في حتمية المواجهة مع حلفاء اﻷسد “موسكو وطهران” على خلفية تناقض المصالح والرؤى معهم، وهو اﻷمر الذي دفع تركيا للسعي مع الولايات المتحدة اﻷمريكية لضمان انسحاب تدريجي، فقد صرح الرئيس الأميركي، ترامب، إنه اتفق مع الرئيس التركي أردوغان على انسحاب بطيء ومنسق بدقة.
بالمحصلة؛ واشنطن اختارت لعب دور المتفرج على مشهد الصراع الحتمي القادم، والروس ليس لديهم ثقة بنوايا السياسة الأمريكية، بالتالي؛ ومن المؤكد أنها تتأهب للدفع بنفسها عسكرياً طمعاً باﻻستئثار وحدها بالغنيمة، حتى وإن كان على حساب التخلي عن اﻹيرانيين، وهذه اﻷخيرة مرتاحة للقرار، وسبق أن أعلنت انتصار سياستها على “الشيطان اﻷكبر”، ما يجعل الفرصة أمامها متاحة لتوفير المال العسكري الذي أنفقته في الحرب وتحويله إلى الداخل المنهار اقتصادياً.
أما في اﻷجل القريب فلا مجال للحديث والتخمينات عن الرابح والخاسر من الصراع؛ لكن المؤشرات الواضحة تؤكد أنّ دولة بحجم الوﻻيات المتحدة تحكمها المؤسسات يستحيل أن تهزم بسهولة، رغم ظهور خلافات داخلية بين البيت اﻷبيض ممثلاً بترامب، والكونغرس وخاصةً الجمهوريين، وهي خلافات مرشحة لمزيد من اﻻحتقان والتفاقم، لكنها بالمقابل لن تكون على حساب شعار “أمريكا أوﻻً”.
باعتقادي اﻹدارة السياسية اﻷمريكية تنتظر انهيار المتصارعين وتعب الضباع الجارية خلف الفريسة، وما إن يسقط الجميع منهكاً فوق الحلبة حتى تلتهم المائدة كاملةً، دون أن تدفع تكلفة فاتورة “الوليمة” إلا اللهم أجرة السفر من قواعدها في المحيط إلى المنطقة مجدداً، وستكون على حساب النفط الخليجي كالعادة، مذيلةً بتوقيعٍ وإطراء “شكراً يا عرب”.
بالمجمل؛ فإن تنفيذ القرار سيعني فتح باب الصراع من أجل التحكّم بمصير سورية كاملة، بدايةً ومنطلقاً من شرق الفرات، وروسيا مع حلفاء اﻷسد لن تكون قادرةً على الصمود عسكرياً لفترةٍ طويلة، إذا ظهرت بوادر تمرد ثوري مسلح على وجودها واعتبارها “احتلالاً أجنبياً”.