جاد الحق |
يظن البعض أنه لتصبح مثقفًا لا بد من تقطيب دائم لوجهك، مع عبوس كالح، والنظر إلى الناس (الغوغاء) نظرة اشمئزاز فوقية، والكلام معهم بلهجة الأب الذي عركته الحياة مع أبنائه السذج الأغرار.
هذا بالنسبة إلى لغة جسد المثقف وإيماءاته وسمته، أما بالنسبة إلى مزاجه، فهو معكر دائمًا بسبب انشغاله بالقضايا المصيرية، فلا وقت لديه لرحلة لأنها مضيعة للوقت، أو مشاهدة فلم كرتون كوميدي لأنه استخفاف بعقله وقيمته، ولا يصلح مزاجه إلا احتساء القهوة السوداء مع ديوان لمحمود درويش أو نزار قباني، وأغنية لفيروز أو زياد الرحباني.
مع الأستاذ مثقف أنت في توتر مستمر واستنفار دائم، فأي نَفَس منك هو ازدراء له، وأي تعليق لك هو تهكم عليه، وأي رأي هو مناكفة مقصودة منك، لماذا؟ لأنه بالطبع مركز الكون، وظِل الإله في الأرض، ففي الوقت الذي تجد أنت فيه طعم الحياة ببساطتها وعفويتها، يركز هو بذكائه اللامحدود، وتميزه غير الطبيعي على تلك التفاصيل التي تولّد لك آلاف الأسئلة المستهلكة للعمر في الركض اللاهث بحثًا عن إجابات لها.. ويمضي العمر عليك مستمتعًا بعفوية حياتك هانئًا فيها، هائما في متاهاتها..لا تفرح كثيرًا، فالمتنبي يقول:
ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ
طبعا أنت أخو الجهالة المتنعم بها، وهو ذو العقل المتألّم ..
هذا المظهر المقيد الذي يحشر صاحبه نفسه في زنزانته، يجني عليه من الويلات ما لا يطاق، فيكفيه أنه يحرمه الاستمتاع بعفوية الحياة، وبساطتها التي تحوي سرَّ جمالها، ويضع ألف حاجز بين روحه وأرواح الآخرين، لذلك ترى نفسه سجينة عالم زجاجي بارد، لا وجود فيه لدفء المشاعر الإنسانية، ولا حميمية التواصل البشري!
المثقف الحقيقي ليس من يحفظ طول نهر الأمازون، ويزدري الذوق العام للناس، بل هو من يجعل ثقافته وعلمه خادمًا لمن حوله من بسطاء وعوام الناس الذين لم يسعفهم القدر بأن يحظوا بهذه النعمة، هو من يرى في ثقافته غديرًا لتغذية روحه بأحسن الأخلاق وأفضلها، بعيدًا عن التشدق والتقعر والعبوس مع البسطاء.
المثقف هو من تعطيه ثقافته ألف سبب آخر ليبتسم في وجه الحياة، هو من يرى في ثقافته منظارًا يبصر فيه تفاصيل عفوية للكون تجعل منه مكانًا أفضل.
نعم يحتاج كلنا للفرار من صخب الحياة وضغوطاتها لجو نراه يريحنا، لكن لنسأل أنفسنا بأمانة هل هذا الجو قد صنعناه نحن لأنفسنا، أم اقتبسناه بتقليد غير واعٍ لمن نظنهم مثقفين؟!
أودّ أن أختم هذه الخاطرة باعتراف بسيط، لي مع الكتب وما يتعلق بها هوى قديم، وعشقي للبرامج الوثائقية لا حدود له، والكتابة والتدوين صمام أمان لعقلي من الجنون، والسينما أجدها فنًا راقيًا جدًا يكاد يكون أفضل ما أنتجته البشرية، لكن، وبصراحة مطلقة، لا أحب أشعار نزار قباني ومحمود درويش، ولا أجد أي نشوة في صوت فيروز وأغانيها، ولا أطيق احتساء القهوة ولا حتى شربها، لأنها ببساطة شديدة مرة الطعم.
أعشق كتابات أحمد خالد وتوفيق، وأتلذذ بأشعار فاروق جويدة وأحمد مطر والمتنبي، ومشروبي المفضل هو الشاي الأخضر.
أفضّل الأفلام الفكاهية والمغامراتية على الأفلام الفلسفية الجدلية، وأحبّ الشعر البسيط الواضح الموزون، على ذلك المعقد المغرق بالرمزية والمتحرر من الأوزان الشعرية.
في التعاملات الاجتماعية تعجبني العفوية وأكره التعقيد، ويميل قلبي لمن هو بسيط وواضح، وأمقت المبهم المتكلّف.
فهل يا يرى سيقبلني أعضاء نادي الثقافة بينهم ولو عضوًا نصيرًا، أم سيرفضونني لأني لا أفهم في التأثيرات الكوزموبوليتانية لإرهاصات عصر ما بعد الحداثة؟!