فاطمة حاج موسى |
تغلق الباب خلفها، تنزل درجات المبنى بخطوات ثابتة واثقة، تخرج إلى الشارع وتنظر حولها بتحدٍ وتقول: “مايزال هناك حياة” تمضي إلى طريق الأمل الذي طال انغلاقه بوجهها، تتنفس بقوة كأنها بمعركة حقيقية، تخرج الساعة الثامنة صباحاً من كل يوم وتمشي نصف ساعة لتصل إلى مركز التدريب، خمسة وعشرون يوماً بعد أن تمّ قبولها في منظمة التنمية المحلية (LDO) لكي تتدرب على المشاريع المخصصة للنساء، ليتعلمنَ مهنة تساعدهنَّ على افتتاح مشروعهنَّ الخاص بعد انتهاء التدريب وحصول الناجحات على منحة مشروعٍ يمكنهنَّ من خوض مجال العمل.
السيدة الثلاثينية “إيمان” من مدينة معرة النعمان جنوبي إدلب، أم للطفل محمد ذي الست سنوات، طفل انتظرت قدومه عشرة أعوام بعد زواجها من والده “أحمد” لكن لم يأتي إلا بعد عملية زراعة أنبوب. عندما كانت إيمان في شهرها التاسع من الحمل تصاعد القصف على معرة النعمان، فأجبرت على الفرار مع أسرتها وزوجها لإحدى القرى القريبة طلبًا للأمان الذي فُقد بمدينتهم، ولكي تلد الحلم بسلام بعيداً عن الموت والقصف.
بعد شهر من ولادة الطفل “محمد” وتحقيق حلم الأمومة، توقف القصف نسبيًا على معرة النعمان وذهب “زوج إيمان (أحمد) ذو ٣٥ سنة برفقة إخوة زوجته: (عبد الرزاق و عليّ ومحمد) لجلب بعض الأغراض اللازمة من منازلهم والاطمئنان على مدينتهم بعد رحيل دام عدّة أشهر متواصلة لكنهم لم يتمكنوا من العودة..
يقولون إن بعض الموتى يتنبؤون باقتراب أجلهم، عبد الرزاق أخبر أمه وهو يبتسم أنه سيرحل عمّا قريب “ليس الآن يا أمي ولكن بعد أن أمضي معكم ليالي العيد” ولم ينسَ أن يوصيها بزوجته الحامل وطفله الصغير، أما محمد أحد أخوة إيمان فقد أمسك بيد أمه التي تجلس قربه “هيا يا أمي لنتعلم معاً سورة (المُلك) ضحك بوجهها وأخبرها أنه سيرحل ويترك وصيته هذه السورة تستعين بها عندما يحنّ قلبها إليه، فتتلوها كلما اشتاقته ..
بقذيفة من حاجز المداجن على طريق معرة النعمان أصابت سيارتهم استشهدوا جميعاً، كانوا هنا كالندى يسندون سياج الضيا، لكنهم رحلوا، وظلالهم ما تزال تطوف بأدمعي التي وسعت الذكريات ..
ما نفع كلمات تواسي بها؟! أمٌ فقدت ثلاثة من فلذات كبدها وزوج ابنتها معًا صاعقة واحدة؛ ودّعت ابتسامتهم بدموع ترافقها آيات من سورة الملك علّ نشيج قلبها يهدأ، وتخفّ حرقته، لكنه خذلها رغم وصية ابنها محمد ..
سقطت أم إيمان من جبروت صلابتها المزيف بثلاث جلطات قلبية متتالية سببت احتشاء بصمامات القلب واحتباساً للسوائل في جسمها، لتأخذ إيمان مع والدتها متكئًا بمشفى الباسل في العاصمة دمشق وتبدأ رحلة علاج طويلة، تقول الأم لإيمان: “فراق أخوتك هدّني وما في شي عم يطفي النار المشتعلة بقلبي” بقيت تبكي كل يوم رغم مضي ثلاث سنوات على رحيل الأحبة، وإيمان تجد بمرافقة أمها سلوى لروحها حتى تنسى بها بعض مواجعها.
توقف قلب الأم الحنون النابض بالحزن منذ فراق فلذات الكبد، تقول إيمان: “ماتت أمي ولحقت بالراحلين، بعد ذلك تزوج أبي، وتزوج أخي الصغير ذو السبعة عشر عاماً من زوجة أخي الشهيد ليحافظ على ما بقي لنا من رائحة عائلتنا، والآن أعيش مع ابني برفقة أخي وزوجته وأولاد أخي الشهيد وأختي الصغرى ..
أخي ترك مدرسته في الصف التاسع بعد مجزرة مروعة أصابت أجساد أصدقائه أمام عينيه، واجتمعت مسؤولية كل العائلة على عاتقه، يعمل الآن مع المنظمات حسب الحاجة له، وأختي الصغيرة في الصف السادس الابتدائي تحتاج لمصروف ومال كثير حتى تكبر هي وطفلي الذي أصبح في الصف الأول، أعلمه دروسه بعد عودتي من التدريب، ويسعدني أنه طفل متفوق دائماً، أخبرتني معلمته أنه أكبر من عمره يسأل ويدقق بالتفاصيل، أعيش أيامي هذه وداخلي تكمن أمنية وحيدة لا غير (ابني محمد ومستقبله).
مرت عليَّ الأيام بحزن عميق لا يمكن التخلص منه، لكني أحاول جاهدة أن أكون أقوى حتى أستطيع تربية ولدي.
بعد قبولي بالتدريب، ومع تشجيع الذين حولي، تعززت فكرة المشروع في داخلي لأعتمد على نفسي وأصنع مشروعي وأعمل، شعرت أن الحياة بدأت تفتح أبوابها لي منذ أول يوم في التدريب، دخلت القاعة وبعد عدة محاضرات أصبحت قادرة على إنشاء مشروعي، أشعر أني بدأت من جديد كسجين نال حريته، جلّ أمنياتي أن استمر بالعمل لحاجتي له أنا وكثيرات مثلي زوجات شهداء يسعينَ لتربية أطفالهنَّ ويحصلنَ على دخل شهري يعتمدنَ عليه بمعيشتهنَّ وتربية أبنائهنَّ، هذا ما نريده فقط.