خالد العمر |
مع افتقارهم لمدفئةٍ تطرد برد الشتاء عنهم وتعطي أجسادهم النحيلة بعض حلاوة الدفء لتساعد الدم على الجريان في عروقهم، ورغم أن صوت المطر كان قوياً على العازل البلاستيكي اللعين الذي يداري خيمتهم البسيطة، ورغم أنهم اعتادوا هذا الصوت لسنوات مضت إلا أن شمعتهم التي أنارت عتمة تلك الليلة قد انتهت في الساعة التاسعة طاردةً أرواحهم إلى النوم عنوةً.
ولأن الشتاء مُتعب بأجوائه وأفكاره لم يلبثوا أن دخلوا في نومٍ عميقٍ سوى الأب الذي سامرته الهموم وأطبقت على صدره بقوة فلم يستطع النوم إزاحتها، كان صوت المطر يخيفه جداً لدرجة أنه صرخ في جوفه ملعناً كرهه له، وسرعان ما استغفر الله ودعاه أن يسامح أباً يخشى على أطفاله من المطر، لكنه تلفّظ بكرهه له من فرط إحساسه بالمسؤولية.
كانت الهموم تسابق المطر فتشتد مع غزارته وتهدأ مع هدوئه، وفي غمرةٍ من الهدنة التي حصلت بين المطر والهموم سرق غفوته ونال منه التعب نيلاً جميلاً أراح قلبه.
ما لبث أن أيقظ روحه صوت جريان مياه وبلل أشعره برطوبةٍ في أطرافه، لم يدرك بعدُ أحلم هو أم حقيقة؟ لكن صوت جريان المياه علا، والبلل أصاب أطرافه بالبرد ولم توقظه صحوةٌ تطمئن قلبه أنه في حلم.
أدرك أن ما خافه قد حصل، أغمض عينيه بقوةٍ قبل أن يفتحهما، ثم فعل فرأى أن جداول المياه التي ازدحمت بها الشوارع دخلت خيمته دون إذن، وأن حصون الحجارة والرمال التي أقامها حول الخيمة بارتفاع بسيط لم تدافع عنه وعن عائلته بضراوة، فانهارت عند أول هجومٍ حصل مع جدران الخيمة التي أقنع نفسه أنها ما زالت بحالةٍ جيدة رغم الرقع التي ملأتها، لكنها أيضًا خانت توقعه واستسلمت هي الأخرى لحباتِ المطر.
خدّره القهر في تلك اللحظة وشلّ تفكيره، وجفّت دموعه وقلبه بدأ نحيبه ببطء.
أيقظ زوجته التي صعقها المشهد، لكنها حملت أطفالها سريعاً لتلجأ بهم لأحد الجيران في الجوار وعادت لتعين زوجها في إيقاف الطوفان الذي بدأ يزداد شيئاً فشيئاً. خرجوا ليسدّوا الثغور التي سمحت للمياه بالدخول لكنها كانت كثيرةً ومتزايدةً، ومع اشتداد المطر الذي كان يطرق جدران الخيمة وسقفها بكل قوة أخذت الأوتاد تستجير بأصحاب الخيمة تلك التي زُرعت في الأرض وقَطعتْ وعداً لهم بأن تبقى صامدةً! هي الأخرى يبدو أنها ستنهار وتخون وعدها كما فعل الباقون، فأحسوا بأن الخيمة لن تصمد أكثر وأنه يجب إخراج أغراضهم منها وإلحاقها بالعيال.
لكنهم سرعان ما تذكروا أن الخيمة أصلا لا تحتوي شيئاً ذا قيمة، فحصير مهترئ وفراش نومٍ رقيقة لم تمنع البلل عنهم، وبعض أوانٍ بلاستيكية قديمةٍ للطبخ لا تستحق عناء نقلها والانشغال بها، وبالتالي لا شيء له قيمة سوى تلك الكنزة الحمراء الناعمة التي استغرق شراؤها عاماً كاملاً! فقد بدأ طفلهم الصغير في تقديم طلبه بشرائها الشتاء الماضي وكانت بسعر غالٍ جداً، وقطع الأب وعداً لابنه بأنه سيُلبي طلبه قريباً، لكن الزمن عند المساكين مختلفٌ تماماً، فأحياناً قد يكون اليومُ خمسين ساعةً ملؤها القهر! والشهر ستين يوماً مفعمًا الحزن، ومعنى قريبًا عند هؤلاء المساكين يستغرق سنةً كاملةً!
التقط الأب كنزة صغيره التي كانت أغلى ما يملك، فهو لا يريد أن يُحرمَ من بسمة ابنه في كل مرة يرتديها، وخرج مع الأم ليقفوا أمام الخيمة بملابسهم المبللة، وبحبات المطر ودموعهم يشاهدون انهيار مأواهم أمام أعينهم للمرة الثانية، ليمتزج مشهد الحاضر بألم الماضي، فالمرة الأولى كانت بسبب القصف لا المطر حين أصبح مأواهم القديم قبراً لابنهم الأكبر.