منة السماوي |
كنت دائماً لا أستطيع أن أبوح بما في صدري من أحاديث، كنت ممن لا يستطيعون التعبير عما في قلوبهم فاتخذت من الصمت أنيساً لنفسي، دائماً ما كانت رأسي تحوى الكثير من الأفكار والآراء وبما أنى ممن لم يستطيعون ترتيب أفكارهم أو تنظيم كلماتهم فآثرت الصمت على أن أتحدث دونما جدوى من فهمى. بت كثيراً أفضل عدم الحديث وعدم المشاركة في الحوارات كنت أخاف أن أدخل في نقاشات لكى لا أخرج منها مهزومة أجر أذيال الخيبة، بت أهرب إلى قراءة الكتب لعلني أجد فيها ما يعينني على الحديث ويخرجني من براثن الصمت.
قرأت الكثير من الكتب لعلها الدواء لصمتي واتخذتها ملجأً لي وفعلاً كانت القراءة هي من جعلت الكلمات تتدفق إلى عقلي والأفكار تتسلل إليه من كل حدبٍ وصوب إلى أن ضقت ذرعاً من كم الكلمات التي التفت حولي حتى أنها كادت تخنقني بقيدها المتين فهي الأخرى ضاقت ذرعاً، أبت أن تُدفن حيةً في ذاك الصدر المظلم، أبت إلا أن تخرج لتفصح عن نفسها في هيئة حروف وكلمات، لم تكن تحتاج غير قلمٍ وبضع ورقات لتهرب من قوقعتها المظلمة التي سكنت فيها منذ أمدٍ بعيد.
ما لا نستطيع البوح به وما تختنق به القلوب والأفئدة وما يُعكر صفو أيامنا؛ ننسج منه ومن صمتنا بعض العبارات التي تكون سلواناً لنا وراحة لأنفسنا. أصبحت الكتابة هي المأوى الآمن الذي ألجأ إليه عندما لا أجد لي مأوى وأصبحت كلماتها تحتضني وألوذ إلى عباراتها لتحتوي قلبي، فهي تصبح كالحياة لي عندما تُغلق أمامي أبواب الحياة. فبالكلمات أنسج حروف الحب والأمل التي تتوارى خلف جدران القلوب وتتلعثم الألسنة عند النطق بها فتبقى خلف جدرانها ساكنة لا يُحركها غير قلمٍ حينئذٍ تُفصح عن نفسها وتخرج من صمتها المطلق الطويل وتتحول إلى كلماتٍ رنامةٍ عذبة فالكتابة تُغنى عن الكثير من الأحاديث التي لا تستطيع أن تبدأها، ولا تعرف كيف سيستقبلها غيرك!
بالكلمات أنسج حروف الحزن والألم، فالكتابة كرئةٍ لمن لا يستطيعون أن يعبروا عن مشاعرهم فتساعدهم على التنفس ومن ثم تساعدهم على أن يحيوا كما يحيا الناس في تلك الحياة، وإن عجزوا يوماً وتوقف سيل التعبيرات الذي كان يُغرق عقولهم ولم يجدوا ما يُعبِّروا به تجد حينها أن الصمت يخنقهم ويفقدهم القدرة على الحياة! بالكلمات أنسج حروف السعادة التي تسكن قلبي فلا أجد أفضل من قلمٍ ليشاركني تلك السعادة ولم أجد أفضل من ورقة لأبثها ما في قلبي من أحاديث، أجدها أفضل من يستمع لحديثي دون كللٍ أو ملل.
ستظل للكتابة في قلبي عِشقاً خاص فهي من أخرجتني من ظلمات الصمت إلى نور الكلمات.. قرأت لأحدهم مقولةً أعجبتني وهي أنَّ الكتابة كلما أعطيتها قدراً كبيراً من الحب بادلتك عِشقاً، والكلمة تنقلك من واقعٍ إلى واقعٍ آخر مغاير له لم يكن إلا في مجال الحلم، وهنا تكمن قوة الكلمة وتكمن ثوريتها الحقيقية، لا المجازية في تأكيدها أن الحلم لا يزال ممكناً.
فبالكلمات يمكننا التخطيط لمسيرة حياتنا أو منها ننسج أحلامنا وببعض الكلمات يمكننا أن نثور بها على واقعٍ لم نقبله ومنها يمكننا تغيير الواقع إلى ما نريد نحن، وبالكلمات يمكننا أن نغير حياتنا إلى الأفضل ونرسم لأنفسنا من الحياة ما ترغب، بقلمٍ يمكننا أن ننتقل إلى عالمٍ آخر غير تلك العالم الذي نعيش فيه أو يجعلك تهيم في فضاء واسعٍ أو يجعلك تعانق النجوم أو يجعلك تحلق كطيرٍ في السماء ويأخذك إلى حيث تنتمي روحك.
ابحث من حولك فلن تجد أحداً يعانقك في أوقاتك العصيبة كالكلمات ولا يسعك في هذه الحياة غير أوراقك التي تتشارك معها ما لم تستطع أن تتشاركه مع الآخرين.. فالكتابة من أكثر الأمور التي نلجأ إليها للتعبير عن كل صغيرة أو كبيرة تجول في خواطرنا وكل ما نشعر به وكل ما يشغلنا من تفكير، فبها تستطيع أن تعبر بشكل رائع ومعبر عن كل ما تُريد، وما ترغب بإيصاله، وبها تستطيع التخفيف من حدة أصوات عقلك!