بقلم : أحمد يزنأُغلق الباب وأُوصد علينا، كان ذلك في منتصف فصل الشتاء، كان شتاؤنا في ذلك العام قاسيًا حقًا، رياحٌ عاتيةٌ هوجاء، كانت تهبُّ علينا من أقاصي الشمال حاملة معها بردًا شديدًا قارسًا، وأمطارًا غزيرة وجليدًا من الصقيع، ثالوث عاتٍ جمّد كل شيء، لم يرحم البشر ولا الحجر، لم يرحم ما تعرى من ورق الشجر، أو ما بقي عليه، ولعلَّه كان أشد قسوة على الأشجار المكسوة.حينما دخلنا المهجع، كان فارغًا من كل شيء إلا من بعض الحشرات والفئران، ليس فيه دثار نضعه تحتنا، ولا غطاء نضعه فوقنا، ولا وعاء أو آنية نستخدمها، وكان الليل قد أقبل وأرخى سدوله علينا لنذوق الأمرَّين، كنا متعبين بما نلناه ذلك اليوم من مشقة السفر والاستقبال الحافل الذي تلقيناه، وكان الإعياء قد أخذ منَّا كلَّ مأخذ، فتح كلٌّ منَّا صرَّته أو كيسه الذي يحمله، وأخرج من الثياب ما يخفف عنه حدة البرد، وتوسَّد بما تبقى تحت رأسه، لقد افترشنا أرضًا غير مستوية باردة كأنَّها قالب من البوظ، وكان غطاؤنا رياحًا باردة جدًا، وعلى الرغم من كل ذلك فإنَّنا قد نمنا وغطَّ كلٌّ منَّا في نومٍ عميق، فقد اجتمع كل ثلاثة أشخاص أو أربعة والتصقوا ببعضهم ملتفين كي يقللوا من البرد ويخففوا من الآلام.بعد فترة قصيرة من الزمن لم تطل، حيث كان يوجد في سقف المهجع فتحتان يظهر فيهما حديد التسليح تدعى كل منهما “شرَّاقة” طرقت إحدى الشراقتين ببارودة أحد الحراس الموجود على السطح طرقًا شديدًا، فاستيقظ جميع الناس الموجودين في المهجع على صوته، خائفين ومرعوبين، وسمعوا صوته وهو يقول لنا: كلاب.. حقراء.. أنذال..، ثم شتمنا وسبَّنا بأقذع ألفاظ يسمعها الإنسان، بعضنا كان يقطن في أحياء راقية ومتحضرة، وبعضنا الآخر يقطن في أحياء شعبية قديمة، غير أنَّ الجميع قال بأنَّه لم يسمع هذه الألفاظ الخرقاء البالية النابية من قبل حتى من أقذر الناس وأسوئهم، ولولا الحياء والخجل لذكرتها لكم، ثم قال: أين رئيس المهجع؟ تقدم رئيس المهجع وقدَّم له المهجع بالعبارة التي صارت فيما بعد مألوفة لنا ” المهجع جاهز للتفتيش حضرة الرقيب أول” فطلب منه أن يقف كلٌّ منَّا نحو أقرب جدار له، وأن يرفع كلتا يديه مع إحدى رجليه، والويل كلَّ الويل لمن يراه قد أنزل رجله أو أسبل يديه، أو استند إلى الجدار، أو رآه جالسًا القرفصاء، بيد أنَّ رئيس المهجع أخبره بأنَّه لا يوجد أحد منَّا يستطيع أن ينفذ ذلك، وأنَّنا قد أتينا في ذلك اليوم ونلنا منه ما فيه الكفاية وأصبحنا غير قادرين على الوقوف، فاكتفى بشتمه ووصفه بشتائم تردُ على مسامعنا لأول مرة، ثم انصرف إلى المهجع المتاخم لمهجعنا ليوقظه ويعذبه.أمَّا الرائد، ذلك الأخ الذي أغمي عليه من شدة التعذيب وهوله، فقد بدأ يتحرَّك وتعود إليه أنفاسه تدريجيًّا وأخيرًا: صحا وجلس فتجمعنا حوله، وراح يحدِّق في كلِّ واحدٍ منَّا، وبدأ يتكلم بشدة وصعوبة، فأوصانا بأنْ نتابعَ الطريق الذي بدأناه مهما بلغ طوله، وأن نستأنف السير عليه مهما اعترضتنا الأشواك، ثم أوصى الذي يبقى منَّا حيًّا ويخرج بأن يخبر زوجته وجميع أهله بأنَّه بقي متمسكًا بمبادئه وعقيدته التي جاء من أجلها إلى السجن، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة، وخرَّ ميتًا على الأرض. نظر السجناء إلى بعضهم بعضًا محتارين، ووقف رئيس المهجع واجمًا لا يدري ما يفعل، فتضاربت الآراء غير أنَّ رئيس المهجع حسم الموقف وطرق الباب طرقًا شديدًا، أتى الحرس الموجود على السطح ليستطلع ماذا جرى فأخبره رئيس المهجع أنَّ واحدًا منَّا قد مات، فقال له الحرس: إذا سئلت كيف مات فقل تعثَّر في دورة المياه وانزلقت قدماه فخرَّ مغشيًّا عليه ميتًا، وإن قلت غير ذلك فإنَّك ستكون أولَّ شخصٍ يلحق به مباشرةً، وسأفعل بأختك كذا وكذا بكلمات تقشعر لها الأبدان ثم انصرف وأخبر ” الذاتية” كما يسمونها.بعد خمس دقائق إلى عشر دقائق أتى المساعد ومعه عدد من زبانيته، وهم يحملون سياطًا طويلة تفلع الظهور وتفقؤ العيون، وطلب منَّا أن نقف متجهين إلى الجدران القريبة منَّا، فتحامل كلٌ منَّا على نفسه وراح يجر أذياله ليقف، فبعضنا وقف منحنيًا، وبعضنا الآخر لم يستطع الوقوف، وبعضنا بقي متسطحًا، فدخلوا علينا “المساعد وزبانيته” وراح الزبانية يضربوننا بها، فنال كلٌّ منَّا عددًا لا بأس به من الجلد بالسياط والضرب بها على رأسه والركلات، وقالوا لنا: إنَّ الضرب فرض على التعيين مع كل فتحة باب علينا، مهما يكن سبب ذلك.حمل “البلديات” وهم (عساكر فارون من خدمة العلم) جثةَ ذلك الأخ وانطلقوا غير مكترثين أبدًا، وأمَّا المساعد والزبانية فصاروا يضحكون ويستهزئون ويسخرون، وعلامات فرح ورضًا بادية على وجوههم، وكأنَّه لم يحصل شيء، وخرجوا رافعين رؤوسهم وكأنَّهم قد حققوا نصرًا كبيرًا مؤزرًا على أعدائهم.