تقف التجربة اليابانية اليوم على بوابة كوكب آخر، صرنا نطلق عليه حقيقةً كوكب اليابان، وكأنه شيء لا يشبهنا، يستعصي علينا نحن الأرضيين الذين مازالوا يمارسون أساليبهم التقليدية في الحياة على هذا الكوكب البائس والقديم جداً في كلِّ شيء .نعم هذا الكلام لم يعد غريباً، صار مقبولاً أنهم يختلفون عن كل العالم، ويقرُّ العالم بذلك، فما السرّ الكامن وراء نجاح هذا الكوكب الذي اكتشفناه فجأة في مجموعتنا الشمسية ضمن محيط الأرض .ليس كلاماً جديداً ذلك الذي أريد أن أقوله في هذه العجالة، وإنما أذكِّر .. لعلّ الذكرى تنفع المؤمنين .قبل حوالي 1400 سنة مضت، كان هناك تجربة فريدة في تأسيس دولة ضمن مدينة صغيرة جداً تدعى يثرب، هذه المدينة قُــدِّر لها فيما بعد أن تصبح أكبر إمبراطورية في العالم، وأعظمها شأناً في العلم والسياسة والحرب والسلم والحضارة والأدب، كانت السباقة دوماً في جميع مجالات الحياة وقتــذاك، شكلت في ذلك الوقت إيضاً كوكباً أخر محاطاً بظلمات الكون المنتشرة في أوروبا وآسيا.ما ميّز التجربتين في الماضي واليوم، هو تلك الإرادة والإصرار على النجاح ضمن ظروف صعبة كانت مليئة بالتحديات، مليئة بالأعداء، مع قلّة في الموارد والأشخاص، كان لا بدّ من أجل نجاح التجربة من الرهان على العمل المتواصل، والاجتهاد الدؤوب، وقبل كل ذلك كان التفكير في الحلول وفي استملاك الغد، بعيداً عن المثبطات، النظرة الإيجابية التي تمثلت في الفهم لقوله تعالى: فإن مع العسر يسرا، معه وليس بعده، لذلك لم يكن مستغرباً أن تفتح حصون كسرى وقيصر من تحت صخور الخندق يوم الأحزاب، إلى جانب ذلك كان الرهان على النجاح الجماعي.في صنع التغيير لا يكفي أن ينجح الأفراد هنا وهناك، لا بدّ من أن تُرسّخ في المجتمع قيمة النجاح، فيصبح مجتمعاً غير قابل لتلقي الفشل في أي جزء منه، كان الإحسان على كل شيء فرضاً حاضراً من الله في عمل الصحابة ومن بعدهم، لقد حُكم المجتمع يومها بمقومات لا تسمح بالفشل، كل شيء كان ضمن بناء واضح، ضمن سنن منهجية فرضها الدين الإسلامي توصل للنجاح، لذلك تم صنع مجتمع ناجح استطاع صنع حضارة وامبراطورية عظمى يسودها العدل والنور على مدى أكثر من ألف عام، مجتمع استطاع الصمود لألف عام حتّى يتم إتلاف أسسه، التي أصبح يتقلب فيها بين نجاح وآخر بفعل انعكاسي، تطوري، لا يحتاج لجهود كبيرة حتى يثمر في كل مرة، لقد كانت الجذور راسخة، والبراعم متفتحة ومستعدة لتزهر وتثمر مع كل موسم حضاري، في أمّة تتعهدها بالرعاية والسقاية بالعلم والمعرفة، والدفاع عنها بالدماء عندما يحتاج الأمر.التجربة اليابانية اليوم استطاعت خلق ذات المناخ الذي يُؤمِّن إثمار النجاح في ذلك الكوكب، والتجربة التي نبحث عنها اليوم ليست بعيدة عن التجربتين في استلهام الماضي، والعمل ضمن مقومات الحاضر، ضمن رؤية إيجابية، وصناعة بيئة نجاح جماعي، لا تستطيع أي تجربة فيها إيجاد مقومات للفشل . المدير العام / أحمد وديع العبسي