يُستعمل تعبير «شعبويّ» بمعنى مناهضة «المؤسّسة» و «النخبة»، ويعبر بشكل أو بآخر على فقدان ثقة الناس بالنخبة وتململهم منها ومن أساليبها المتعالية عليهم في الحياة، وتعبر الشعبوية عن غضب عارم وإحباط عند الجماهير تجاه مؤسساتها ونخبها التي بدلاً من الاستجابة لهم تزيد من عزلتهم ومن تحييدهم عن الشأن العام الذي يوصف دائماً لدى النخبة بأنه غير متاح للجميع ويحتاج للمختصين والخبراء، ممَّا يورث الناس تذمراً كبيراً قد يتفجر على شكل ثورة أو يتمثل في سيطرتهم على المؤسسات وجعلها رهينة إحباطهم وانفعالاتهم الآنية التي ربما تسير بالبلاد إلى دوامة من السقوط لا تدركها الجماهير إلا في وقت متأخر جداً، لأنها تحظى في البداية بفوائد ملموسة سريعة.
إن ما يدمر النخبة يقارب ما يدمر التيار الشعبوي، الفساد الذي يجعل الأولى منفصلة عن الجماهير، والجهل الذي يجعل الثانية تسير نحو الهاوية، وإن إيجاد مكان في المنتصف أثبتت الديمقراطيات الكبرى التي تترنح تحت ضربات التيار الشعبوي أنه أمر ليس سهلاً، وإيجاد التمازج بين التيارين يحتاج إلى مراقبة دائمة وعمل دؤوب، وإشراك التيارين في الحكم بشكل دائم. والذي دائماً ما يكون مستحيلاً عند تدخل عوامل المصلحة إلى جانب التيار الحاكم أيّا كام شكله، فعمله الدؤوب على الحفاظ على مكانته، يجعله يسور طبقات الحكم ومؤسساته بنمطيته التي يستطيع العمل داخلها بأريحية، وليس بديناميكية قادرة على التغير والتفاعل مع الظروف.
يبدو أن الجماهير لا يمكن أن تتعلم من الدروس السابقة إطلاقاً، وأصوات النجوم الشعبويين مرتفعة لتقول دائماً إنها ستشكل تياراً مختلفاً وستحقق مصالح دائمة للناس، لن تسمح بها للنخبة بالتحكم في كل شيء، وكذلك النخبة تبقى معتدة بقوتها وقدرتها على المراوغة وخداع الناس من أجل مصالحها حتى يتم نخرها من الداخل فتسقط دفعة واحدة بدون حراك، لأنها لا تريد أن تحفظ مصالح الناس إلى جانب مصالحها، أو يبدو بالنسبة إليها هذا الأمر مستحيلاً أو صعباً، ولا ينسجم مع الفرصة التي يجب أن يتم انتهازها بأفضل شكل ممكن لأنها قد لا تعود مرة أخرى.
إن الانتهازية للأسف هي التي تسيطر على عقلية الطبقتين، أو لنقل على عقلية الصفوة في الطبقتين لكيلا نعيد استخدام مصطلح النخبة، هذه الانتهازية تجعل العمل خالياً من القيم ومتماهياً فقط مع المصالح المؤقتة للمجموعة التي تصل للحكم أو للسيطرة أو لقيادة المؤسسات دون أن تهتم لمصالح الناس أو مصالح بقائها الطويل غير المضمون فعلياً، لأن التأسيس لنوع من مؤسسات الحكم المنضبطة بقيم حقيقية تجاور بين مصالح الفئات الحاكمة وقوة استمرارها ومصالح الجماهير أمر يحتاج وقتاً طويلاً، وهذا الوقت مملوء بالضربات التي توجه للمجموعة المسيطرة، فهي لا تمتلك ترف الوقت المريح لكي تعمل من أجل مجد الوطن وأبنائه، وتكون الحلول السريعة القائمة على الدعاية للجماهير ورشوتها، وبيع الشعارات هي السبيل الأقصر والأكثر ضمانة ريثما يستتب الأمر نهائياً، عندها إما أن تتابع في هذا السلوك التصاعدي لتصل إلى الاستبداد الكامل، وإما أن تعمل على بناء المنظومة التي حلمت بها في بنيتها الفكرية وشعاراتها التي أغرت بها الجماهير لتحصل على ثقتهم.
المدير العام | أحمد وديع العبسي