جاد الغيث |
عندما ننتبه نرى أن كبرى نِعم الحياة وأجمل ما فيها تُمنح لنا دون مقابل كنعمة الصحة والعافية وغيرها..، لكننا دائمًا نسعى لإشباع المزيد من رغباتنا مقابل مالٍ كبير يستغرق من أعمارنا ساعات عمل طويلة لتأمينه.
اليوم يمتلك الإنسان الذي يعيش في المدن المتطورة، ثلاثة أضعاف ما كان يمتلكه قبل خمسين سنة، تكنولوجيا متطورة تفوق الخيال، إعلانات وحسومات، قُروض وتسهيلات في التسديد، وكل شيء حولنا صار يدعونا لاقتناء المزيد من الأشياء.
سعادة البعض أصبحت مرهونة بما يملكون لازدياد القدرة الشرائية، ومع الوقت يسقطون في فخ الاستهلاك الذي يُفقد التوازن في الحياة، حيث يصبح الإنسان يعمل أكثر ويستهلك أكثر.
لم نأتِ إلى الدنيا بغرض الاستهلاك، وهذا جليّ في خلق الله تعالى لنا، فالإنسان يملك يدين اثنتين وفمًا واحدًا، كي يتعلم العمل والإنتاج أكثر ممَّا يأكل ويستهلك.
وزبدة (قضية الاستهلاك) في مجملها مرتبطة بفهم العلاقة بين الرغبة والحاجة، والصراع الذي ينشأ بينهما حين تنظر عيوننا إلى المعروضات المغرية حولنا.
رافق سيدنا (عمر بن الخطاب) رجلاً كان كثير الشراء في جولة تسوق، وأنكر عليه فعله بجملة مختصرة تُعبر عن صحوة فكرية لإدراك الفرق الكبير بين الرغبات والحاجات، فقال له سيدنا عمر مؤنبًا: “ويحك، أكلما اشتهيت شيئًا اشتريته؟!”
لقد صار الاستهلاك في حياتنا اليومية يعد بمنزلة (دين جديد) له طقوس ومعابد، معابده المدهشة (مراكز التسوق) التي تثير شهيتنا للمزيد دائمًا ولو لم نكن نحتاجه، وترتد عن هذا الدين الجديد وتصبح كافرًا به عندما تُخرج من فمك كلمة (كفى)!!
لكن هنا في مناطقنا المحررة لا أحد يحتاج لقول كلمة (كفى) فالسواد الأعظم من الناس تملك الحد الأدنى لاحتياجاتها الضرورية فقط، ولا أدري فيما إذا كان سكان المخيمات يمتلكون هذا الحد الأدنى المُكمّل لإنسانيتهم المفقودة مؤقتًا، كما أن مراكز التسوق المغرية بالشراء، كما هو الحال في دول الخليج مثلاً، قليلة جدًا، فالحرب المُدمرة ماتزال ترفع رايتها المزينة بالركام الذي يصافحك في معظم الدروب.
ومع كل ذلك تتاح للغالبية نعمة الحياة البسيطة، أعرف عائلة طيبة مكونة من أربعة أفراد على قدر كبير من الوعي، يسكنون بيتًا بسيطًا في مناطقنا المحررة، هذه العائلة تعيش ممَّا يكسبه الأب من عمله (سائق)، ومع ترتيب الاحتياجات اللازمة والمفاضلة بينها بالتشاور وتقديم الأولويات، تصل هذه العائلة إلى مستوى لائق بحياة كريمة.
الاقتصاد نصف المعيشة، وربَّة البيت التي تحفظ مال زوجها وتتقن فن إنفاقه، تكون عونًا حقيقيًا لعائلتها في حياة أفضل، وإذا كانت أهم قاعدة في علم الاقتصاد تنص على: (الحصول على المنافع بأقل التكاليف)، فإن النبي الكريم يؤكد هذه القاعدة بمعنى آخر في حديث صحيح معناه: “ما قل وكفى خير ممَّا كثر وألهى”، كما أن القرآن الكريم وصف المبذرين بأنهم ” إخوان الشياطين” وبشكل عام فالإنسان العاقل الحكيم مكلف شرعًا بالاقتصاد في كل شؤون حياته، في نومه ومأكله وملبسه وعلاقاته، كما أن الحياة القائمة على امتلاك القيم والخبرات والصداقات أكثر أهمية وأغلى من الحياة القائمة على امتلاك الأشياء، وهذا يطابق تمامًا تعاليم الرسول الكريم وحياته البسيطة جدًا التي عاشها بسلام.