إنَّ التيار الشعبوي وصل إلى السلطة أثناء الثورة الاشتراكية وحركات العمال التي تبيَّن زيفها بأكبر استبداد قام باسم الجماهير في روسيا وألمانيا والصين، واليوم يعيد نفسه مع تصاعد اليمين في الولايات المتحدة وأوروباـ ليعلن إعادة إنتاج الشعبوية من جديد داخل الكيانات الديمقراطية التي لم تحفظ أمام الجماهير سوى مصالح النخبة التي تحالفت مع بعضها لتجيير الجماهير كلهم لإرادتها فقط، وصارت الانتخابات هي لعبة الأقوياء فقط، لعبة إعادة تموضع المصالح والمال بين الشركاء والمتنافسين في كل مرة، ليكون على الجماهير أن تختار أهون الشرور بدلاً من أن تختار من يمثل مصالحها بصدق.
إنَّ هذه الحالة والخيبة التي تصحو عليها جماهير الديمقراطيات الكبرى في العالم جعلت المراهنة على إعادة إنتاج الشعبوية أمراً مستساغاً، خاصة وأنَّه في أسوأ حالته يندرج ضمن خيارات أهون الشرور، حيث سيطرت قوَّة النخبة على العملية الديمقراطية في الفترة الماضية، ولا بأس من إعادة تجريب الصفوة الشعبوية التي أفرزتها الجماهير من داخلها مرة أخرى داخل المؤسسات الديمقراطية التي تشعرهم بالأمان تجاه التغول أو الاستبداد، ولكن ربما ما لا تدركه هذ الجماهير أنَّ التيار الشعبوي من الصعب جداً إزاحته إذا ما تمكنت له السلطة، لأنَّه يعتمد على اندفاع وحماس الطبقات المسحوقة التي لا تملك شيئاً تخسره حقيقة.
عندما غرَّد ترامب أثناء ترشحه بأنَّه يحب غير المتعلمين كان يعي ما يفعل تجاه الفئة الأكثر حماسة في المجتمع، والأكثر شعوراً بالتهميش، التي اندفعت لتصنع لنفسها كياناً بانتخابه يشعرها بأنَّها قد وصلت إلى السلطة لأول مرة، وبأنَّ حراكها صار مؤثراً، بل في أعلى درجات التأثير.
لقد وفَّرت مواقع التواصل الاجتماعي أرضاً خصبة جداً لتنمو فيها صفوة الشعبويين بسرعة ويصيروا هم النخبة الأولى في المجتمع متجاوزين صفات النخبوي القديم، فهم يمثلون الجماهير بكل ما يفعلونه، وفي الوقت نفسه لا يخفى تأثيرهم على مختلف طبقات المجتمع، لتصير النخبة القديمة مجرد طبقة منزوية في المجتمع تعتد بتُراثها ومعرفتها ونمطها الخاص في الحياة دون أن يكترث لها أحد، ويزداد بعدها عن الناس أكثر فأكثر.
إنَّ ما تحتاجه الجماهير في الحقيقة ليس أن تدير هي دفة الحكم، بل هي واعية أنَّها تحتاج نخباً تثق بها قادرة على تمثيلها تمثيلاً جيداً دون إقصاء، ودون أن يتم حصرها في خيارات محدودة أغلبها تضر بمصالحها وتحافظ فقط على مصالح المجموعات المسيطرة، ولكنَّها في كلِّ مرة تقع فريسة الدعاية وتكتشف أنَّ الأمر مختلف عمَّا تمَّ الترويج له أثناء الانتخابات، وتوالي الخيبات يقودها إلى الانجراف وراء التطرف أو تجربة التيار اللاواعي، لأنَّه يمتلك خطاباً يشبهها، وينطلق عن مخاوفها ويسدد اللكمات لأولئك الذين قاموا بعمليات الخداع على مدى السنوات الماضية.
المدير العام | أحمد وديع العبسي