عثمان سحبان |
لقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير في إماطة اللثام عن جانب من جوانب الانحلال الأخلاقي الذي تعرفه المجتمعات العربية، والذي كان في مراحل سابقة يتم في الخفاء، في ضل النفاق الاجتماعي ووراء ستار (الأخلاق) والتدين. و”تيك توك” هو احد هذه المواقع التي استطاعت تحقيق انتشار كبير، واضحى عبارة عن ملهى ليلي مباشر للعريّ والايحاءات غير اللائقة والرقص الماجن. حيث رفع الحياء، عن مجتمع لطالما كان يصنف عرض نسائه في خانة الحرمات والممنوعات؟!
وتجدر الإشارة إلى أن “tiktok” أو “Douyin” هو عبارة عن منصة إجتماعية للمقاطع الموسيقية، تم أطلاقها في سبتمبر 2016 بواسطة مؤسسها تشانغ يى مينغ. وتعتبر شبكة تيك توك اليوم منصة رائدة في مقاطع الفيديو القصيرة في آسيا والعالم، إذ شهد تطبيقها للهواتف المحمولة أسرع نمو في العالم وأيضاً صارت المنصة الإجتماعية الأكبر للموسيقى والفيديو على الصعيد العالمي. وصل مستخدمو التطبيق إلى 150 مليون مستخدم نشط يوميا (500 مليون مستخدم نشط شهريا) في يونيو 2018، وكان التطبيق الأكثر تثبيتاً في الربع الأول من عام 2018 بـ 45.8 مليون تثبيت. ويعتمد التطبيق على تصوير مقاطع فيديو لا تتعدى 15 ثانية، حيث يقوم فيها الاشخاص بتصوير مقاطع موسيقية قصيرة مُرفقة بفيديو للمستخدم متفاعلا مع المقطع.
استطاع تطبيق “تيك توك” تحقيق انتشار كبير في الدول العربية -خاصة المغرب والجزائر ومصر- حيث اكتسحت مقاطعه المصوّرة لشباب وشابات يرقصن على أغاني مختلفة، بلباس مثير وحركات ساخرة ولا أخلاقية، في الوقت الذي انتشرت فيه مقاطع صادمة لبعض الفتيات يرقصن ويتمايلن في الشارع، وزوجات رفقة شريك حياتهنّ داخل غرف النوم وهو ما لم تتعوّد عليه المجتمعات العربية، فطالما إعتبر الرقص والعري الفاضح أحد الفواحش والمحرمات، إذ بقي هذا النوع من الممارسات لسنوات لصيقا بأماكن الدعارة والملاهي الليلية، الشيء الذي تم تجاوزه مع انتشار مثل هذا النوع من التطبيقات، فعند التجول في “اليوتيوب”، “فايسبوك”، “أنستغرام”، ستصادف المئات من هذه الفيديوهات، إذ دفع الشغف الغالبية لتجربة هذا التطبيق من مراهقات، محجبات ومتبرجات كلهن رحن يتفنّن في استظهار مواهبهن في الرقص الشعبي والغربي وخوض تحديات مختلفة داخل غرفهن أو حتى في الشوارع والطرقات.
ما يثير الانتباه أن الفتيات اللواتي ينشرن هذه المقاطع، معضمهم من أسر محافظة، ما يثبت فشل العملية التربوية التقليدية، وانهيار القيم الأسرية، ذات الطابع الديني والأخلاقي. ناهيك عن أن هذا التطبيق قد ساهم في كسر حرمة البيوت بشكل لا يُصدق لدرجة أن الفتيات ينشرن رقصهن وميوعتهن داخل بيوتهن بملابس غير محتشمة وبغناء أغلبه من أغاني الملاهي الليلية وحتي في حضرة أبائهن أو أمهاتهن أحيانا، خصوصا وأنه من المفترض على الآباء الإشراف على أبنائهم، ونهر بناتهم وردعهن على مثل هذه التصرفات غير المقبولة والتي تسيء لهن ولسمعتهن بدلا من مشاركتهن الرقص.
رافق ذلك انتشار “حُمّى الشُّهرة” فكل الفتياة أصبحن يبحثن عن الشهرة بأي ثمن، فإما أن تكون الفتاة محظوظة فتلقى مقاطعها المصورة إقبالا وإنتشاراً كبيرين في التطبيق وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وإلا فإن الوصفة السحرية والسريعة التي تتبعها الكثير من الفتيات لزيادة عدد المعجبين وهن لا يمتلكن الموهبة ولا القبول اللازمين، هي التصوير بـ”الفتلترات” للحصول على (الجمال)، وتخفيف الملابس أو إرتداؤها مكشوفة وضيقة، ولكن ما يحصدنه في النهاية هو مشاهدات من ذوي النفوس الضعيفة الذين لا يهمهم شيء سوى النظر إلى الأجساد المثيرة، وتعليقات خارجة تسيء إليهن قبل أي شيء آخر. وحتى الشباب يمكنهم الحصول على النجاح والشهرة، ببعض التعبيرات والحركات الغبية والمضحكة على وجوههم، أو الرقص على بعض الأغاني المشهورة، أو إعادة تمثيل بعض لقطات الأفلام، بطريقة ساخرة، لحصد جمهور الفتيات المراهقات الراغبات في التعرف عليهم والتقرب منهم.
ومع إنتشار مثل هذا النوع من التطبيقات، إختلفت الآراء وردود ألأفعال، فقد إستغرب الكثيرون أن تكون هذه المقاطع المصورة لشباب وشابات عربيات، خصوصا وأن لباسهم وشكلهم لا يمت لجتمعاتنا بأية صلة، وما يؤدونه من رقصات وحركات وايحاءات جنسية يخرج عن كل القواعد الأخلاقية والدينية التي تربينا عليها، فيما تساءل آخرون إن كانت الفتيات اللواتي يظهرن في الفيديوهات وهن يرقصن في الشارع لهن آباء وإخوة، معتبرين أن هذه التكنولوجيا قد كشفت على مدى التسيب داخل الأوساط الاجتماعية، وكذا الإهمال داخل الأسرة التي تراجعت فيها السلطة الأبوية والوازع الديني والأخلاقي ليترك المجال لما يسمى بالتطوّر التكنولوجي. وكثير من الشباب اليوم يرون أن السؤال الذي سيصبح أكثر طرحا عندما يريد أحدهم الارتباط بفتاة ما إذا كانت الفتاة قد أخذت صورا بـ”السناب شات” أو “الأنستغرام” أو نشرت فيديو في “اليوتيوب” أو رقصت في “التيك توك”.
مشكلتنا مع وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجبا بشكل عام، هي أننا نسيء استخدامها، فبدل أن نسخرها لخدمتنا فيما هو هو إيجابي ويعود علينا بالنفع، نستغل فقط الجانب السلبي منها، وهذا عائد إلى كون هذه التكنولوجيا دخيلة علينا، فلا هي من ابتكارنا ولا نحن تربينا على التعامل معها. فقد عشنا لقرون وسط دائرة البدائية والتخلف والتقييد الديني-الاجتماعي، وفي لحظة غير مسبوقة وجدنا أنفسنا وسط عالم حديث غريب عنا، ولم نحسب له أي حساب. وهذا التطور التكنولوجي فتح الباب على مصراعيه للعديد من الظواهر الشاذة والطابوهات، للظهور للعلن. فالمرأة التي لم يكن بإمكانها الذهاب للديسكوهات أصبح بإمكانها الرقص في المنزل وإظهار مفاتنها، والرجل الذي كان يخجل من التعرف على النساء وإقامة علاقات غير شرعية أصبح بإمكانه ذلك وبسهولة، والمثلي الجنسي الذي كان يخاف لوم واستنكار المجتمع أصبح بإمكانه الاعتراف بمثليته بكل حرية، والفتاة التي كان يمنعها آباؤها من الحديث مع الشباب أصبح بإمكانها فعل ذلك. وما زاد الطين بلة أن هذه (الحرية الافتراضية) أضحت تنتقل شيئا فشيئا إلى العالم الواقعي.
ونظرا لخطورة هذا النوع من التطبيقات، فقد تدخلت العديد من الجهات الرسمية، للحيلولة دون أن تكون لها أية انعكاسات أو تبعات سلبية. أولها السلطات الصينية التي فرضت مجموعة من التوجيهات التي تُحمِّل مطوري التطبيقات مسؤولية المحتوى الذي ينشره مستخدموها، وتفرض عليهم مراجعة كل محتوى يُنشر، بما في ذلك حظر مئة شكل من أشكال المحتوى. وهذا الأمر لم يقتصر على الصين وحدها، بل إن وزارة التربية الوطنية في الجزائر أيضا تدخلت ومنعت رسميا تطبيق “تيك توك”، وذلك نظرا للمخاطر التي يحملها لفئة القاصرين، حيث أنه ينشر مواد غير أخلاقية قد تعرض القصّر والشباب للابتزاز والاستغلال من المنحرفين. هذا ويجب على الآباء وكل المساهمين والفاعلين الاجتماعيين تكثيف جهودهم من أجل إيجاد حلول لهذه الظواهر، ونشر ثقافة التعامل مع التكنولوجيا وترشيد إستعمالها، للحد من خطورتها وسلبياتها على الفرد والمجتمع.