بقلم : أحمد يزنفي صبيحة اليوم الثاني جلس كلٌّ منَّا مكانه، وهو يفكر في وضعه المزري، كلنا صامت، كلنا يعاني حالة نفسية سيئة، صرنا في ذلك المكان أضيع بين الأيتام على مأدبة اللئام، الخوف يحيط بنا من كل حدب وصواب، والفزع ينتابنا في لحظة كل لحظة وحين، ماذا نعمل؟ هل من مخلص؟ تساءلنا جميعاً كان الجواب ليس لنا منجى إلا اللجوء إلى الله، رفع كلٌ منَّا يديه نحو السماء، دعونا، استغثنا، تضرعنا، بكينا، ثمَّ رفعت رأسي ونظرت إلى الوجوه من حولي، وقد علتها صفرة الخوف، تذكرت في تلك اللحظات أياماً حلوة عشتها خارج السجن، سهرات ممتعة لذيذة قضيتها برفاهية وعز، قطع عليَّ ذلك أصوات مرتفعة في الخارج، صياح، صراخ، نباح، عواء، جلبة قوية مدوية، دهموا المهجع وفتحوا الباب وتوغلوا داخله، وقفنا باتجاه الجدار ونحن مغمضو العيون، صوت نادانا (اخلعوا ملابسكم وابقوا فقط بالسروال الداخلي القصير) صاحوا .. عووا .. زمجروا .. ما استجاب أحد، ضربونا، شتمونا، لا أحد يستجيب، رغم أنَّه تملكنا قشعريرة وخوف شديدين، أغلقوا الباب وخرجوا، ليعودوا بعد قليل ومعهم المساعد الذي طلب منهم الابتعاد عنَّا ثم خاطبنا: (ألا تريدون أن تذهبوا إلى الحمام، لتنظفوا أجسامكم، ألا تريدون أن تغسلوا هذه الدماء والجروح،؟هيا لا أحد سيقترب منكم) خلعنا ملابسنا، إلا السروال الداخلي القصير، وخرجنا واصطففنا أمام المهجع، كل اثنين معاً، وراء بعضنا بعضاً، وضع أحدهم سوطاً في فم أحد الاثنين الذي يقف في المقدمة، وقال له سِر ورائي، هنا هجمت علينا الكلاب الشاردة والذئاب الشريرة من الشرطة، وصرنا نركض ويركضون وراءنا كفريسة تطاردها وحوش مفترسة كاسرة، كانت السياط تدقنا والكرابيج تأكل من طهورنا، والدماء تتقاطر من أجسامنا ورؤوسنا , وصرنا نخرج من باب باحة وندخل باب باحة أخرى، والجميع يصيحون بنا، يشتموننا، حتى وصلنا الحمام، الحمام هذا عبارة عن غرفتين اثنتين، كل غرفة مقسمة إلى مقصورات، وكل مقصورة يعلوها “دوش” واحد، وهي تتسع لشخص أو شخصين، المياه كانت ساخنة جداً تسلخ الجلود وتحرقها، قسمونا إلى قسمين، قسم أبقوهم في الخارج، وقسم دخل الحمام، وقف في كل مقصورة من خمسة إلى ستة أشخاص، أمرونا أن نبدأ الحمام بعد أن طلب منَّا أن نخلع سراويلنا القصيرة، صرنا عراة كيوم ولدتنا أمهاتنا، هيا استحموا، بدأ يقف كلُّ واحد منَّا تحت المياه الساخنة من “الدوش” لحظات ونفعه ليقف الأخر , كانت مدة الحمام كلها لهذا القسم دقيقة ونصف أو دقيقتين، علينا أن نستحم و نحن مطاطئو الرؤوس، والويل كل الويل لمن يقع بصره على أحدهم أو يأتي بأي حركة مهما كانت، كان يقف الواحد منَّا تحت الماء لثوان يبلل فيها جسمه تبليلاً، المياه ساخنة جداً تكاد تحرقنا، وكان لا بدَّ لأي منَّا مهما غضَّ بصره إلا أن ينظر إلى بعض عورات زملائه غصباً عنه، وكانت أجسامنا تتلامس لأنَّ المكان ضيق في الخارج، صوت السياط تلسع الأجسام و الأبدان، صياح، وعويل فاجأنا صوت مرعب، انتهى الحمام، أخرجوا، تسابقنا في الخروج، الكل يريد أن يخرج قبل غيره، لأنَّ من سيتأخر ويكون الأخير سيوسعونه ضرباً، وسيدفع الثمن.خرجنا ودخل القسم الثاني إلى الحمام.والذي كان فاتح العينين يسحبونه ويجلسونه جاثياً لتنهال عليه السياط والركل والضرب بالألف على الوجوه و اللكم بالأيدي ونحن واقفون هذه الدقيقتين ليخرج الباقون، كنَّا نشعر بها كأنَّها ساعتين ممَّا نلاقيه، وبعد برهة قفلنا عائدين إلى مهجعنا اثنين .. اثنين .. كما أتينا وعادت المطاردة، وعاد السباق، نركض ويركضون، وكان من يتعثر منا فإن تدوسه وتطحنه الأقدام و الأحذية، إلى أن وصلنا أمام باب المهجع، ثمَّ جاءنا إيعازمنبطحاً، واقفاً، مستلقياًعدة مرات حتى اتسخت أجسامنا بالطين و الوحل، دخلنا إلى المهجع , كل واحد منَّا يريد أن يدخل دورة المياه من أجل تنظيف جسمه أو قضاء حاجتهأعطانا رئيس المهجع أرقاماً، وصار ينادي علينا واحداً .. واحداًالمياه داخل دورة المياه باردة مثل الثلج، ولكن ماذا نفعل؟علينا أن ننظف أجسامنا ممَّا لحق بها من وسخ ووحل، كل واحد يدخل مدة دقيقة لا أكثر إلى أن دخل الجميع، وبعدهاكان كل من ينظف جسمه يسارع إلى ارتداء ملابسه والجلوس مكانه، وهو يستغفر الله، ويدعو على الظالمين.