أولاً – صلاة قيام الليل في عهده صلى الله عليه وسلمإن صلاةُ قيامِ اللّيلِ مِن سُنن الهدى التي ينبغي المحافظةُ عليها، وليس لعددِها قدْرٌ محدَّدٌ لازمٌ عندَ علماءِ السّلفِ، وفقهاءِ الأمّةِ، على خلافٍ بينهم في الأفضل؛ فلا يجوزُ جعلُ العددِ سبباً للتّفريقِ بين المسلمين، أو الاتهامِ بالابتداع، وهي مِن السُّننِ الثّابتةِ عن النّبي صلى الله عليه وسلم، والتي واظب عليها، ورغَّب فيها، ومنه قيامُ رمضانَ الذي سُمّي بعدَ ذلك بالتّراويحِ.وكان يصليها إحدى عشرةَ ركعةً في الغالبِ مِن أحوالِه، بل كان إذا شغله عن قيامِ اللّيلِ نومٌ، أو وجعٌ، أو مرضٌ صلّى مِن النّهار اثنتي عشرة ركعةً، كما في سنن النّسائي، وقد يزيدُ في صلاةِ اللّيلِ فيصلّيها ثلاثَ عشرةَ ركعةً، وربّما صلّى بأقلَّ مِن ذلك، وكلُّ هذا سنّةٌ.قالت عائشةُ رضي الله عنها :(ما كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يزيدُ في رمضانَ، ولا في غيرِه على إحدى عشرةَ ركعةً) متفقٌ عليه.وفي الصّحيحين عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال :(كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصلّي مِن اللّيلِ ثلاثَ عشرةَ ركعةً).وعن زيدِ بنِ خالدٍ الجهني رضي الله عنه قال:(لأرمقنَّ صلاةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم اللّيلةَ، فصلّى ركعتين خفيفتين، ثم صلّى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلّى ركعتين، وهما دون اللّتين قبلَهما، ثمّ صلّى ركعتين، وهما دون اللّتين قبلَهما، ثمّ صلّى ركعتين، وهما دون اللّتين قبلَهما، ثمّ صلّى ركعتين وهما دون اللّتين قبلَهما، ثمّ أوتر، فذلك ثلاثَ عشرةَ ركعةً)رواه مسلم.قال النّووي في “شرح مسلم”: “قال العلماءُ : في هذه الأحاديثِ إخبارُ كلِّ واحدٍ مِن ابن عباسٍ، وزيدِ بن خالدٍ، وعائشةَ رضي الله عنهم بما شاهده…، وذلك لما كان يتّفقُ مِن اتّساعِ الوقتِ له، أو ضيقِه، إمّا بتطويل قراءتِه في بعضِها كما جاء، أو طولِ نومِه، أو لعذرٍ مِن مرضٍ، أو كبَرِ سِنٍّ”.وكان النّاسُ في عهد النّبيِّ صلى الله عليه وسلم يصلّون قيامَ رمضانَ أوزاعاً متفرّقين، ثمّ صلّى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم في المسجدِ، فاجتمع النّاسُ على الصّلاةِ معه عدّةَ ليالٍ، ثمّ تركها خشيةَ أنْ تُفرضَ عليهم، وبقي الأمرُ على ذلك في خلافةِ أبي بكر، وصدرًا مِن خلافة عمر رضي الله عنهما، ثم جمع عمرُ رضي الله عنه النّاسَ على القيامِ في رمضانَ في جماعةٍ واحدةٍ. ثانياً – عدد ركعات التراويح في عهد عمر وقد تعدَّدت الرواياتُ في عددِ الرّكعات التي جمع عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه النّاسَ عليها.والعمدةُ في هذا الباب: ما رواه الصّحابي السائب بن يزيد رضي الله عنه، وقد اختلفت الرّواياتُ عنه في عدد الركعات:* فروى عنه محمد بن يوسف -كما في “موطأ الإمام مالك- أنّه قال :” أمر عمرُ بنُ الخطابِ أبيَّ بنَ كعبٍ، وتميماً الدّاريَّ أنْ يقوما للنّاس بإحدى عشرةَ ركعةً، وقد كان القارئُ يقرأ بالمئينَ، حتى كنّا نعتمدُ على العِصيّ مِن طولِ القِيام، وما كنّا ننصرفُ إلا في فروعِ الفجرِ ”.* وروى عنه يزيدُ بن خُصيفة -كما في “مسند علي بن الجعد”، وأخرجه مِن طريقِه البيهقيُّ في “السنن الكبرى” – أنّه قال : “ كانوا يقومون على عهدِ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه في شهرِ رمضانَ بعشرين ركعةً” .وقد صحّح كثيرٌ مِن أهلِ العلمِ كلتا الرّوايتين، وحملوا كلَّ روايةٍ على حالٍ مختلفة، منهم: البيهقيُّ، والنّوويّ، والزيلعي، وابنُ تيمية، والعراقي، وابنُ حجر، والعيني، والسّيوطي.قال البيهقي: “ويمكن الجمعُ بين الرّوايتين، فإنهم كانوا يقومون بإحدى عشرةَ، ثم كانوا يقومون بعشرين، ويوترون بثلاثٍ”.وقال الحافظ ابنُ حجرٍ في “فتح الباري”: “والجمعُ بين هذه الرواياتِ ممكنٌ باختلافِ الأحوالِ، ويحتملُ أنّ ذلك الاختلافَ بحسب تطويلِ القراءةِ وتخفيفِها، فحيثُ يُطيلُ القراءةَ تقل الرّكعاتُ، وبالعكس” . ثالثاً – ما اتفق عليه العلماء في عدد ركعات التراويح اتفق عامّةُ أهلِ العلمِ مِن السّلف والخلفِ على أنَّ صلاةَ التّراويحِ ليس لها عددٌ محدّدٌ، ويدلُّ على ذلك جملةٌ مِن الأدلةِ الشّرعيةِ:1- حديثُ ابن عمر رضي الله عنهما : أنَّ رجلاً سأل النّبيَّ صلى الله عليه وسلم : كيف صلاةُ اللّيلِ؟ فقال:(مَثنى مَثنى، فإذا خشيتَ الصُّبحَ فأوتر بواحدةٍ توتر لك ما قد صليتَ)متفق عليه .فالنبيُّ صلى الله عليه وسلّم لم يحدّد له عدداً مع أنّ السّائلَ لا يعلم عددَها، وتأخيرُ البيانِ عن وقت الحاجةِ لا يجوز، فدلَّ ذلك على جوازِ الزّيادةِ.2- أنّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ قام بأصحابِه حتى ذهب شطرُ الليلِ، فقال أبو ذرٍّ : “لو نفَّلْتنا بقيةَ ليلتِنا هذه”. [أي: لو زدتنا صلاةَ بقيةِ اللّيلِ]، فقال له النّبي صلى الله عليه وسلم:(إنّ الرّجلَ إذا قام مع الإمامِ حتى ينصرفَ حُسب له قيامُ ليلةٍ)أخرجه أبو داود والنّسائي وابن ماجه.فقد أقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أبا ذر رضي الله عنه على طلب الزّيادة في الركعات، ولم يضع لها حدّاَ، ولو كانت الزيادةُ على ما فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم غيرَ جائزةٍ لنهاه عنها، وبيّن له عدمَ جوازِ ذلك.3- جريانُ العملِ لدى السّلفِ الصّالح منذ عهد الصّحابة رضي الله عنهم على الزّيادةِ عن إحدى عشرة ركعةً، واشتهارُ ذلك بينَهم، دون نكيرٍ، مما يوضِّح فهمَهم لقولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وفعلِه.ففي “مصنف ابن أبي شيبة” عن عطاءٍ قال: “ أدركتُ النّاسَ وهم يصلّون ثلاثاً وعشرين ركعةً بالوتر”.وفيه عن داودَ بنِ قيسٍ قال: “ أدركتُ النّاسَ بالمدينةِ في زمنِ عمرَ بنِ عبدِ العزيز، وأبانَ بنِ عثمانَ يصلّون ستاً وثلاثين ركعةً، ويوترون بثلاثٍ” .وفي “المدونة الكبرى” قال الإمامُ مالكٌ : “بعث إليَّ الأميرُ، وأراد أنْ يُنقصَ مِن قيامِ رمضانَ الذي يقومه النّاسُ بالمدينةِ – وهي تسع وثلاثون ركعةً بالوتر – فنهيتُه أنْ ينقصَ مِن ذلك شيئاً ، قلتُ له : هذا ما أدركتُ النّاسَ عليه ، وهو الأمرُ القديمُ الذي لم يزل النّاسُ عليه”.وقال الإمامُ الشّافعيُّ: “وليس في شيءٍ مِن هذا ضِيقٌ ولا حدٌّ يُنتهى إليه؛ لأنّه نافلةٌ، (فإنْ أطالوا القيامَ وأقلّوا السّجودَ: فحسنٌ، وهو أحبُّ إليَّ، وإنْ أكثروا الركّوعَ والسجودَ: فحسنٌ”). نقله البيهقي في معرفة السنن والآثار.4- الإجماعُ الذي نقله عددٌ مِن العلماءِ على أنّ صلاةَ القيامِ ليس لها عددٌ محدودٌ :قال ابنُ عبد البر في “التّمهيد”: “وكيف كان الأمرُ، فلا خلافَ بين المسلمينَ أنَّ صلاةَ اللّيلِ ليس فيها حدٌّ محدودٌ، وأنها نافلةٌ، وفعلُ خيرٍ، وعملُ برٍّ، فمَن شاء استقلَّ، ومَن شاء استكثر”.وقال القاضي عياض في “إكمال المعلم ”: “ولا خلافَ أنّه ليس في ذلك حدٌّ لا يُزادُ عليه ولا يُنقصُ منه، وأنَّ صلاةَ اللّيلِ مِن الفضائل والرّغائب التي كلّما زِيد فيها زِيد في الأجر والفضل”.وقال العراقي في “طرح التثريب”: “وقد اتّفق العلماءُ على أنّه ليس له حدٌّ محصور”.وقال ابنُ تيمية في “مجموع الفتاوى” : “كما أنّ نفسَ قيامِ رمضانَ لم يوقّت النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيّناً…، ومَن ظنَّ أنَّ قيامَ رمضانَ فيه عددٌ موقّتٌ عن النّبي صلى الله عليه وسلم لا يُزاد فيه، ولا يُنقص منه فقد أخطأ” .وقال السّيوطي في “المصابيح في صلاة التراويح”: “الذي وردت به الأحاديثُ الصّحيحةُ والحسانُ الأمرُ بقيام رمضانَ، والترغيبُ فيه مِن غير تخصيصٍ بعددٍ ”.وعليه: فلا وجهَ لاعتبار الزّيادة في عددِ ركعاتِ التّراويحِ مِن الإحداثِ في الدّين، فرميُ المخالفِ في ذلك بالبدعةِ لم يسبق في كلامِ أحدٍ مِن أهل العلم مع تطاول القرون.ولا يجوز جعلُ مسألةِ العددِ في صلاة التّراويحِ مِن المسائل التي تؤدّي إلى التّنازعِ والافتراقِ، وتنافر القلوبِ، أو الاختلافِ على الإمام، أو الانفصال بجماعةٍ، أو مسجد دون بقية المسلمين، بل هو مِن الابتداعِ في الدّينِ، وتفريقِ جماعة المسلمين.كما أنه لا يجوز الإنكارُ على مَن اقتصر على إحدى عشرةَ ركعةً، ولا يسوغُ اعتبارُه مِن المحدثات التي تخالف سبيلَ المؤمنين، فكما أنَّ الزيادةَ على إحدى عشرةَ ركعةً جائزةٌ، فكذلك الاقتصارُ عليها، وفي كلٍّ خيرٌ.وعلى طلبةِ العلمِ، وأئمّةِ المساجد أن يعلّموا النّاسَ سعةَ ذلك بأقوالهم وأفعالِهم، وينوّعوا في صلاتهم أحيانًا بين عدد الرّكعات، وطولِ القراءة؛ ليعلم النّاسُ أنَّ الأمرَ لا حَجرَ فيه.المصدر : هيئة شام الإسلامية