منيرة حمزة |
في زحمة التطور التكنولوجي الرهيب ما نزال نسمع من أجدادنا وآبائنا الحكايا الكثيرة عن أربعينية وخمسينية الشتاء، إذ كانوا يقسِّمون الشتاء إلى عدة فترات كل فترة تبدأ وتنتهي بوقت معين متكئين على القصص والأساطير المروية، فهو سعد الذابح والبالع وسعد السعود وسعد الخبايا، فمن هو سعد هذا؟ ولماذا نستحضر قصته كل شتاء؟
تناقلت الجدات في سهرات الشتاء الباردة تحت ضوء القناديل المشتعلة وصرير الأبواب المتجمدة، الروايات والحكايا عن أيام الشتاء والسعودات كما يُطلق عليها، فيروى في سالف الأزمان، أيام الدولة الأموية عندما كان البريد يرسل بالخيل والجمال، أن سعدًا خرج من بلاد الشام وهو ساعي البريد آنذاك في الأول من شهر شباط، فثارت العواصف ونزلت الأمطار واشتد وطيس البرد، فما كان من سعد إلا أن ذبح ناقته واختبأ بداخلها علّه ينجو من العاصفة، فسُميت هذه الفترة “سعد ذبح” أو سعد الذابح، وهي تمتد من أول شهر شباط وحتى 13 منه، وتعرف هذه الفترة بشدة بروتها وانخفاض درجات الحرارة فيها، ثم تليها فترة جديدة تُدعى” سعد بلع ” ممتدة من 13 حتى 25 شباط، وهي كناية عن أن سعدًا أكل وبلع من لحم ناقته ليبقى على قيد الحياة، ولهذه الفترة دلالة مناخية على أن الأرض تبلع ماء السماء بسرعة فلا تشكل البرك على سطها ولا المستنقعات.
وهكذا نجا سعد، فسَعِد وسميت هذه المرة سعد السعود التي تمتد من 26 شباط حتى 10 آذار، حيث تبدأ درجات الحرارة بالارتفاع ويتسلل الدفء إلى العروق ولهذا يقولون (سعد السعود، بدور الدم بالعود) والدلال العلمية لهذه المقولة أن فيها تنتهي فترة سبات النباتات وتمتص الغذاء من التربة بعدما كانت ساكنة في سوقها.
وهنا يليها آخر قسم في السعودات وهو “سعد الخبايا” من 10 حتى 22 آذار، حيث تخرج الحيوانات المختبئة من برد الشتاء من مخبئها وسباتها، فيقال: (سعد الخبايا، تتفتل فيه الصبايا) والصبايا هنا ترمز للحيات والأفاعي لأنها تخرج من أوكارها تتحرى الدفء، وصاحبنا سعد أيضًا خرج من مخبأه وعاد إلى أهله سالماً معافى بعدما ترك لنا قصة شعبية تتناقلها الألسن على مرّ الأيام، تلك القصة عبارة عن خمسين يوماً قضاهم سعد في صحراء بلاد الشام مختبئ في جوف ناقته يأكل من لحمها ويحتمي في حجرها.
بغض النظر عن مصداقية القصة أو عدمها، فإن موروثاً شعبيًا لايزال مرتبطاً بهذه الشخصية، وبناءً عليه قسمت أيام الشتاء.
أما اليوم فأيام شتائنا أكثر وجعاً وبرداً من قبل، تغلب عليها الحقائق لا الأساطير، والموت لا النجاة، ففي الوقت الذي علينا أن نستبشر بالشتاء خيراً، ونفرح بقدومه، أصبحنا نعد الأيام ليمضي عنَّا ويحمل أمطاره وأعاصيره وأمراضه ويرحل عن مخيماتنا التي تمزقت بفعل رياحه، وتبللت من أمطاره وأغرقت أهلها في مستنقعات الذل والقهر والبرد، فهذا الضيف الثقيل على أهل سورية خصوصاً أشبعهم بؤساً أينما حلوا، في المخيمات والبيوت، في المنفى وفي الوطن.
فكم من سعد بيننا قتله البرد ولم يجد ناقةً يذبحها ويختبئ في جوفها! وكم من طفل قضى صريع الجوع والبرد تحت سقف الخيمة المهترئة! وكم من أم أشعلت مدفئتها بالمواد البلاستيكية وعلب النايلون لتجر الدفء لأطفالها وتجر معه كل الأمراض والأوبئة المنبعثة من احتراق المواد السامة!
أيام الشتاء هذه أشد علينا من أيام الحرب، بل هي حرب غير متكافئة بين شعب أعزل من مواد الطاقة التدفئة الصحية، في أرض تسبح بالنفط المسلوب وتعج بالثروات المنهوبة، فنموت تباعاً قهراً وبرداً وجوعاً وظلماً، لننتظر أفول الشتاء وسعوداته بفارغ الصبر.