جاد الغيث |
اسمي ريم، أعيش في حلب الغربية، أنا طالبة جامعية في السنة الرابعة، أدرس في كلية الحقوق بجامعة حلب، أعشق مدينتي المنكوبة التي تحررت منذ سنتين، (كما يقول إعلام نظام الأسد المجرم)، حلب الشرقية خرج منها أهلها مقهورين مرغمين، وسواء كانوا ثائرين أو محايدين، هناك كانت تعيش أختي التوأم مع زوجها، لقد استشهدا معًا في نهاية عام 2015، ببرميل متفجر حوَّل بيتهما إلى ركام، وجسديهما إلى أشلاء!!
حلب الشرقية بما فيها (المدينة القديمة) مدمرة ببراميل متفجرة رمتها طائرات الأسد، وبصواريخ وقذائف رمتها طائرات روسية، قصف لم يهدأ طوال سبع سنوات مضت.
أما حلب الغربية فقد كان نصيبها من الدمار يكاد لا يذكر، إلا أن أهلها ذاقوا الأمرين طوال السنوات الماضية وحتى هذه اللحظة.
في بداية الثورة كانت معاناة حلب الغربية، حيث تسيطر قوات النظام، تقتصر على تفاصيل أساسية يومية، حيث لا ماء ولا كهرباء وفقدان (للخبز) القوت اليومي للفقراء والأغنياء، طوابير تكاد لا تنتهي تنتظر دورها في الحصول على بضعة أرغفة، طوابير آمنة من قصف الطيران المروحي الذي يحلق من سماء حلب الغربية متجهًا لقتل نفوس بريئة في الجهة الشرقية، تقف أيضًا في طوابير للحصول على الخبز.
أسوأ شعور نعيشه دائمًا، كان ومايزال وسيبقى هو (الخوف من الاعتقال) في أي لحظة، ولأتفه الأسباب!
قد تعتقل عند مرورك أمام أعين (حواجز الذعر والنصب)، وقد تعتقل في الجامعة، أو تساق مثل كلب أجرب من قلب غرفتك في المدينة الجامعية، (كما حدث قبل يومين مع صديقتي الحمصية)
من الطبيعي جدًا ابتكار تهم جاهزة تناسب القيد الذي يوضع فجأة في يدي أي شخص لمجرد أن يشير إليه أحد (الشبيحة) بأنه معارض، أو أنه من سكان حلب الشرقية سابقًا.
وهنا تظهر كلمة (إرهابي) واضحة جلية، حتى لو كان الشخص مصابًا بقذيفة أسدية بترت يده أو ساقه، وحتى لو كان محايدًا، وربما مؤيدًا لنظام الأسد، ولكنه كان يعيش في حلب الشرقية مناطق (الإرهابيين) كما يسوق النظام دائمًا.
حلب مدينة واحدة لا شرقية ولا غربية، وحين عادت كتلة واحدة كما كانت، ازداد الخوف والقهر والتمييز أيضًا بين أبناء الشرقية والغربية؟؟!!
فماتزال مناطق الثوار سابقًا تعاني من سوء الخدمات بعد عامين من التحرير المُدعى، أصوات مولدات الأمبير في كل مكان، والكهرباء لم تصل بعدُ للكثير من الأحياء، والدمار شاهدًا ناطقا على كل تفاصيل جرائم الأسد التي لم ولن تُنسى.
بينما من حيث الصورة الظاهرة تبدو حلب الغربية أكثر رخاء ونعيمًا تحت أضواء كاميرات النظام التي تُظهر مدينتي مليئة بالحياة والأمان، بينما الواقع يزداد سوءًا يومًا بعد آخر.
(حلب) التي أحبها بكل أحوالها، والتي لم أغادرها منذ اثنتي عشرة سنة مضت، تسجل اليوم رقمًا عالميًا في الاعتداءات الجنسية على الأطفال، وقد ارتفعت فيها مؤخرًا نسبة الفساد إلى حدّ لا يحتمل.
تخيلوا أنني الآن، وأنا أكتب لكم هذه الكلمات، أقف في طابور طويل أمام نافذة مغلقة، كما هي النوافذ الأخرى، البرد قارس، وأنا وزميلاتي في كلية الحقوق ننتظر أن ينتهي الموظفين من تناول فطورهم، ليتكرموا علينا بفتح النوافذ واستلام الأوراق المطلوبة للتسجيل في سنة دراسية جديدة.
الساعة الآن العاشرة والنصف وسبع دقائق، النافذة المغلقة التي أقف أمامها يقترب منها أحد الموظفين، سأغلق جوالي الآن بعد أن كتبت إليكم من قلب الحدث جزءًا بسيطًا من عذابات وأوجاع مدينة الشهباء الخالدة في التاريخ التي يعيش أهلها الآن أسوأ أيام حياتهم.
بعد انتظار ساعة ونصف في البرد الشديد، ها هي ورقة التسجيل الجامعي في يدي، شعرت وأنا أمضي في طريق عودتي إلى البيت أن قدماي من جليد، حاولت أن أمشي بسرعة لتوليد قليل من الدفء لجسدي الذي راح يرتجف، بينما كانت الشمس خجولة حائرة تحاول أن تشق لها نافذة صغيرة بين الغيوم السوداء..
ازداد قلبي وجعًا حين لمحت في شارع جانبي صفًا طويلاً من نساء وكهول وأطفال يافعين، يبدو صفًا بلا نهاية، وبجانب كل شخص (جرة غاز) فارغة، ومئات الأسئلة تدور في رأسه كل واحد منهم؟
هل سيحصل على الجرة حقًا؟ يمكن أن تنتهي أسطوانات الغاز حين يأتي دوره!! تقول إحدى الأمهات في سرها: هل من الممكن أن تموت ابنتي الرضيعة من البرد، كما ماتت تلك الطفلة التي قرأت عنها في (الفيس بوك) الأسبوع الماضي..
يقول فتى أنهكه الوقوف منتظرًا: يبدو أنني سأموت من البرد قبل أن أحصل على جرة الغاز، لقد تأخرت عن المدرسة أيضًا.
رجل تجاوز الستين يضع يديه في جيب معطفه الأسود الطويل، عيناه مختبئتان تحت نظارته الطبية السميكة، أعلى رأسه مغطى بقبعة سوداء، وجزء من وجهه محاط بلفحة صوفية سوداء كذلك!!
كان يبدو كالميت قهرًا وبردًا، وكفنه أسود اللون كدموعه التي توقعت أنها تنساب على خديه بكبرياء، كان أحد العابرين بجانبي يردد بصوت عالٍ: (حسبي الله ونعم الوكيل، 20 ألف ليرة سورية، ثمن جرة غاز، ياربي دخيلك، مالنا غيرك يارب، لا حول ولا قوة إلا بالله …)
التفت العابر حوله، ونظر إلي بعينين منطفئتين، ابتسم في وجهي دون أن يتكلم، تابعت طريقي على أمل التقاط صور تشرح صدري من دروب حلب الذابلة التي تكاد تموت قهرًا وذلاً.
شيء من الدفء راح يتسلل إلى أطرافي المتجمدة وأنا اقترب من موقف الباص،
تحت سقف الموقف الحديدي راحت قطرات المطر المنهمرة فجأة، كأنها تعلن عن غضبها وحزنها معًا، تصدر صوتًا رتيبًا أثار أحزاني مجددًا مع رؤيتي لوجه طفل لم يتجاوز عشر سنوات، يحمل بين يديه اللتان تحولتا إلى اللون الأزرق علبة بسكويت فيها قطعتين فقط!!
أطرق الطفل برأسه حين التقت عيناي بعينيه الواسعتين المحمرتين، ولبعض الوقت تجمدت نظراته على حذائه العسلي المهترئ، وحين رفع رأسه مجددًا، كانت شفتاه الزرقاون تريد أن تقول شيئا، ولكن لغة الكلام تعطلت لديه، فأطرق رأسه مرة أخرى!!
حينها أخرجت من حقيبتي 200 ليرة، وتناولت قطعة البسكويت من علبته، نظر إلي مبتسما وقال بصعوبة: (ما معي أرجعلك)، ابتسمت وقلت له: (ومين قلك بدي ترجعلي، شو اسمك؟) رد بخوف وكأنه متهم بارتكاب جريمة: (أنا مصعب) قلت له: (عاشت الأسامي) وفي سري قلت: (ما أصعب الأيام التي تنتظرك يا مصعب).
كنت أريد أن أتكلم إليه أكثر، ولكن الباص وصل، صعدت إليه وجزء من قلبي تعلق بمصعب، هذا الصبي المسكين ظلت نظراته تتابعني حتى غاب عني حين انعطف الباص يمينًا، تخيلت يده ترتفع عاليًا وتلوح لي بفرح، كأنه كان يدعو لي، وكأني سمعته ينادي: (تعالي إلى هنا مرة أخرى، فأنا أقف قريبًا من الجامعة دائمًا، أنا هنا دائمًا لأبيع البسكويت).