فاطمة حاج موسى |
انطلاقة الربيع العربي وضعت الشعوب العربية أفراداً وجماعات في مواجهة التغيير وقضاياه، وقد تعرضت هذه القضايا لصعوبات ومشاكل جمّة اتخذت وجهة جديدة في المجال النظري والتطبيقي، حيث ركزت، وبحسب الاحتياجات بعد سقوط بعض الأنظمة وعموم الفوضى في بلدان أخرى، على هموم الناس الجمعية الأساسية في الاقتصاد والصناعة والعناية بالسكان و تأمين احتياجاتهم الأساسية من (تعليم، وصحة، وتغذية، وسكن، وتأهيل تقني وعملي في مختلف المجالات)، لكنها لم تعطِ للأفراد اهتماماً كافياً كما اهتمت بالبنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مع أن الفرد وليد هذه البنية الاجتماعية بشكلها البدائي، وعدم تطوره يعني أن هذه البنية ستبقى متخلفة، والتركيز على الفرد ضمن الاحتياجات الجمعية ذات الطابع الاستهلاكي، هو خدمة لتدوير عجلة الجماعة الخاملة، وليس فاعليتها، أمّا الاهتمام بالفرد على أنه عنصر فاعل ومحرك أساسي في البنية الاجتماعية، وليس جزءًا مستهلكًا من أجزائها، يمنحه دورًا فعالاً يؤثر ويتأثر، ويستطيع أن يغير بالبنى إذا خضع للعناية والتعليم والتدريب المناسب.
نلاحظ أن تجاهل هذا الأمر أوقع بعض الدول والمجتمعات، الذين يحاولون التغيير بالمجتمع، بمآزق وضغوطات كبيرة أدت إلى هدر الجهد والوقت والإمكانيات المادية الموجودة، وبالتالي التبذير الواضح وتحميل المجتمع عبئاً ثقيلاً فوق طاقته، وتحويله إلى مجتمع عالة.
انطلقت التنمية بمشاريع طنانة ذات بريق و وجاهة تمثلت بدراسة مخططات ومشاريع جزئية بسيطة، لم تنفذ لبنية مجتمعنا بالنسبة إلى التكوين النفسي والذهني للأفراد الذين أُريد تطويرهم، نتيجة وضع خطط ونماذج مستوردة، نجحت تاريخياً في البلدان الصناعية حيث المنشأ، وأخفقت في أغلب البلدان المستوردة لها، لأنها تختلف في جوهرها عن طبيعة البيئة التي تطبق فيها هذه المشاريع أساساً، بدءًا من الوضع المعيشي إلى العادات والتقاليد المختلفة التي لا تناسب المجتمع و اختلاف تربية الأفراد، فبقيت مشاريعًا ذات طابع دعائي استعراضي، ولم تستطيع تحريك بنية المجتمع ككل أو الارتقاء بأفراده.
في سورية، وبظل الحرب التي أثرت بشكل كبير على الأفراد ووعيهم، انبثقت عدة مؤسسات وأُنشئ الكثير من المنظمات التي تدعو للتغيير والاهتمام بالأفراد، توزعت بمناطق مختلفة من الداخل السوري، بأسماء متنوعة وهدف واحد “تغيير الفرد و التأثير عليه” لكن ما مدى نجاح هكذا مؤسسات خصوصاً أن غالبيتها العظمى مستوردة من مشاريع خارجية طبقت على أفراد مختلفين تماماً، بدءًا من البيئة، وأوضاع المعيشة، بالإضافة إلى الحرب، لكن لا ننسى مساعداتهم خصوصاً بالمشاريع الإنسانية التي ساهمت بمساعدة المنكوبين (وهو فقط ما نجحوا به) الذين يعيشون بمناطق الصراع، ولم تلبِ حاجة الأفراد للتغيير الذين رغبوا باستئصال الورم الذي أصابهم، وليسوا بحاجة حُقن مهدئة لآلامهم، وأخرى مُخدرة تنسيهم لبعض الوقت ما يعايشوه من قهر وألم، أقيمت أغلب المؤسسات لمساعدة الناس، وربما لإسكات أصواتهم فحسب، تساؤلات كثيرة، تحتاج تفسيرًا واضحًا للوقائع والأحداث حتى لا نُخون من يقدم يد المساعدة لهذه الفئة بالمجتمع، ومن ضمن هذه التساؤلات.. هل ما تقدمه لنا هذه المنظومات والمؤسسات كان متوفرًا لدينا سابقاً؟ وهل نهضتنا ستتحقق بما توزعه علينا هذه المؤسسات؟
نهضتنا هدفها مختلف عمَّا يُقدم لنا من أشياء تُشترى ببيع خيراتنا من جهة، وتُرسَل لنا مساعداتٍ من الجهة الأخرى، الحق الذي نطالب فيه مختلف عن حق العيش والسكن والأمان والتعليم وغيرها ممَّا تدعو له قوانين الغرب؛ لأننا نعلم جيداً ما هي حقوقنا التي صرخنا من أجلها، لم نصرخ من أجل الفاجعة ثم لكي نعالجها.
كل ما في الأمر أننا لم نعد ذاك القطيع الذي يُساق حسب ما يريد الراعي، وهذا ما لن نقبله مرة أخرى، أعلنا الثورة وأشعلنا الثأر لسنوات الغرق المديدة بعد أن تنفسنا حريتنا، شبعنا من الخطابات والهتافات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، مضينا نحو الإبداع والتغيير بعيون متفتحة لا نريد غلقها على الاكتفاء بمعالجة المأساة فحسب.
إننا لا نخشى غياهب طرق مظلمة نعبر إليها ولا نعود، لا نخاف أن تنطفئ شعلة وجودنا عندما نتحدى الطغاة، قررنا تدمير أصنامنا ليبقى نور شعلتنا يضيء دروب الحرية لأجيالنا القادمة، وهو ما نحتاجه في معركة التغيير التي نخوضها.
وبعد كل خساراتنا لم يعد هناك مكان للرضوخ والتخاذل والتنازل عن حقوقنا، ومن هنا بدأت تنبع أهمية محاولاتنا لتغيير الأفراد بأن نفتح أعينهم المغمضة عن حقوقهم المسلوبة حتى يطالبوا بها، لأن ظواهر هؤلاء الأفراد مشتتة تذهب في كل اتجاه وتظهر تصرفاتهم ومواقفهم ونظرتهم بأنها مشتتة، الواقع كل فرد هو كلٌ متماسك له بنيته الخاصة وديناميته المتطورة التي تحتاج لتنظيم وفهم جدلي، رغم ما يبدو عليه من سكون ظاهري، بسبب تحكم التقاليد وما تحكمه من جمود بالمجتمع، الفرد المتخلف أو الذي لا يعلم ما حقوقه في موطنه، مع وجود نماذج معينة من التكوين النفسي وطبيعة أساليبه الدفاعية دون تخصيص أو تعميم، وكان لانفجار العنف فرصة للكشف عمَّا يعتمل في بنية المجتمع من عنف مخفي، والتناقضات بالصراع توضح بالعين المجردة ما يتعرض له الأفراد من قهر واعتباط، خصوصاً مع ما يتخذه العنف حالياً من هدر لكيان الإنسان، فهو تحديد نمط تلك العلاقات و الاستجابات بأشكال مقنعة غير مباشرة وراء السكون الظاهري وتأثير ذلك على كل فرد مقهور الذي يعد نتاج التخلف الاجتماعي.