سلوى عبدالرحمن |
لحظات مؤلمة مشبعة بالدم أحملها في ذاكرتي من تلك الحرب اللعينة، لا شيء يدفعني في هذه المدينة لنسيان رائحة البارود والموت وطعم القهر بعد كل مفخخة أو قصف تتعرض له مناطقنا بشكل مستمر.
صرخات المراصد، دوي سيارات الإسعاف، صوت (قبضات (اللاسلكية وهي تنادي أطقم الإنقاذ والدفاع المدني مختلطة معها صرخات الأهالي ممَّن تسارعت خطاهم لتفقد ما حصل في ذاك الشارع المكتظ بالمارة وقت الظهيرة، كلها تسمعها عندما تعود المفخخات من جديد.
تحول المشهد من لوحة جميلة فيها عودة الأطفال من مدارسهم، والموظفين إلى بيوتهم من آباء وأمهات يحملون مستلزمات أسرهم، إلى لوحة نازفة.
تستمر اللحظات بالمرور أمام عيني، ليست شريطًا للذكرى، بل هي أحداث من لحم ودم، فجأة تنفجر سيارة مفخخة فتتطاير الأجساد للسماء، تهرع فرق الإنقاذ والإسعاف وبعض المدنيين للمساعدة، فتأتي مفخخة أخرى تكره الإنسانية أكثر من المفخخة الأولى فلا تذر أحدًا قريبًا منها على قيد الحياة.
لا أخفيكم القول إنني لم أبكِ على مشاهد الأشلاء، ولم تنزل من عيني دمعة، لكني شعرت أن قلبي يعتصر وجعًا وحنجرتي كادت تنفجر، لأنني بكل بساطة استهلكت كل الدموع، ففي كل يوم قصف ومفخخات، الموت عندنا ليس له زمان أو مكان، نعم لكل أجله، لكن الموت يرافقنا منذ استيقاظنا وحتى آخر لحظة قبل نومنا.
لا شيء ينفعك في هذه المدينة سوى استسلامك لضربات القدر، مفخخة أو قذيفة طائشة، وتوخي الحذر لن ينفعك لأنك قد تموت بقذيفة وأنت داخل منزلك، وقد يكون الأطفال في حضن آبائهم أو حتى في أرحام أمهاتهم.
تحديد نوع القصف ومكانه، وعدد الضحايا والجرحى بعد كل انفجار أو قصف، هو الحديث الأهم، لكن الأمر المخيف الذي يجعلني أتأكد من أننا سنتعرض لضربات أخرى أكثر حقداً هو عودة الناس للحركة والحياة الطبيعية بعد القصف، فما إن تمضي ساعة بعد الكارثة حتى تبدأ أصوات الناس تعلو بالمكان، وهي ترفع الأنقاض، وتُنظّف المكان من الدم والدمار، بشكل يجعلني أتأكد بأن قوة هؤلاء وقدرتهم على تحدي الموت بشكل يومي لا مثيل لها.
لا شيء تغير كثيرًا، هو ذات المشهد في كافة المشافي بعد كل مفخخة أو قصف، فلانة تبكي على أخيها أو أبيها أو ابنها، وذاك الطفلان يهزان والدهما لعله يعود إلى الحياة، فتاة في ريعان شبابها وضعت حجابها على عجل تفتح أكياسًا تحتوي على جثث لمجهولي الهوية بحثاً عن والدها المفقود فلم تجد منه سوى بقايا أب، أما فوق السرير يجلس طفل في الثالثة من عمره مندهشًا لا يعرف لمَ تحولت الألوان كلها للأحمر، وملامحه تقول ما الذي حدث؟ أين أنا وأين أهلي؟
في زاوية أخرى من المشفى نفسه، تجد طبيباً يحاول لصق ما تبقى من يد أو قدم، ولكن يبدو أنها تضررت بشكل يتعذر على الأطباء إعادة شرايينها وأعصابها إلى طبيعتها، يا إلهي كيف تمكن هؤلاء الأطباء والمنقذون من احتمال كل هذا الدم الألم؟!
بالنسبة إلينا نحن السوريين تعايشنا مع العتمة وضنك العيش، مع أحلام ربما لم يتجاوز عمرها اليوم، لكننا لم نتعايش مع الموت والأشلاء، وفي كل يوم نتساءل: ألم يحن الوقت للخلاص من المفخخات والقذائف التي تفتك بنا كل يوم؟! ألا يحق لنا أن نحلم بمشهد جميل ولوحة تنبض بالألوان والحياة؟!