فرات الشامي |
معظم الشهادات التاريخية التي اعتدنا سماعها من اﻵباء سراً أكدت حقيقة جوهرية يمكن من خلالها فهم المشهد السوري اليوم، أسبابه وخلفياته، انطلاقاً من مراجعة حال الدولة حتى ليل 8 آذار 1963. فحتى تلكم الليلة، ورغم اﻻنقلابات العسكرية التي عصفت بالحكم والتي بلغ عددها سبعة، إﻻ أنّ الحياة المدنية والسياسية بلغت بالمعنى الشعبي الدراج “أوجها”.
فالمجتمع السوري آنذاك كان ذو تركيبة حزبية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، فيه القومي والشيوعي واﻹخواني، وكانت تدور بينهم معارك انتخابية لم يسجل فيها إقصاء للآخر، حتى كانت ثورة 8 آذار المظفرة!! والسؤال: لمصلحة مَن حدثت (الثورة)؟!
ما زلتُ أذكر تلك اللحظة التي اقتادني فيها المساعد أول “جاسم.ع” إلى فرع الخطيب، نهاية تسعينات القرن الفائت، بعد كتابتي موضوع التعبير الذي فرضه علينا مدرس اللغة العربية حينها حول منجزات ثورة 8 آذار.
ملخص تلك الورقة لم يغب عن ذهني، ﻻ سيما بعد الصفعة والركلة اﻷبوية من سيادة المساعد أول في غرفة التحقيق، الذي أكد أنها ترمي ﻹيقاظي من غفوتي وغفلتي.
ومازال عنوان الورقة حاضراً، “حياةٌ نمطية تحت عباءة ثورة اﻻنقلاب على الدولة المجيدة”، سردت فيها جملة مما اعتقدت أنها حقائق حفرتها كلمات جدي “ب.ش” أحد قيادات الثورة العربية الكبرى، ويمكن تلخصيها بمجموعة من النقاط، وهي بلا ريب جملة إنجازات 8 آذار، وإن كنت يومها لم أبلغ من الجرأة ﻷقول أوصلت “حافظ اﻷسد” إلى سدّة الحكم، فقد أشرت حينها إلى ممارساته التي انتهت إلى العناوين التالية:
سجون عنوانها العريض “تدمر”، أفرع أمنية زادت عن عدد المساجد والجامعات، مجازر إنسانية وبشرية رمز إليها تهميش محافظاتٍ وأشلاء جثثٍ في حماة.
ثم عرجت على مسألة العسكر الذي انتقل كلياً من لعب دور الحامي للوجه السياسي والتنافس الحزبي، إلى قوة الحكم اﻷساسية، بعد أن كان قوة أساسية في الحكم.
ثم انتقلت إلى قضية التعددية التي تشدق بها نظام اﻷسد يومها، وركزت الكلمات على التساؤل حول جدوى “الجبهة الوطنية التقدمية” التي حولت اﻷحزاب التقليدية إلى دمىً تلاشى دورها بعد نفاذ بقايا أعضاء قياداتها، وشبهتها ببيت الطاعة الذي تأمّر عليه فعلياً الحزب القائد وبالنتيجة التي لم أذكرها يومها للقائد الخالد.
أمّا ما غاب عن الورقة، فكان توصيف الجريمة اﻷساسية التي نقلت الدولة المدنية إلى حكم البسطار الأسدي، الذي رسخه التوريث في نظامٍ يدعي “الديمقراطية”، في حين تؤكد زنزناته إقصاء اﻵخر بغض النظر عن مسمياتهم، وتبني تجربة الحزب الواحد الشمولية، التي ساقها من الاتحاد السوفييتي حينها.
تعهدت والدتي بعد أيامٍ من حفل التوعية واﻻستضافة اﻹنسانية في كنف فرع الخطيب، بعدم تكرار ذلك الفعل المسيء الذي يخدم الكيان الإسرائيلي وعملائه.
خرجتُ بعد أن طرحتُ سؤالي اﻷخير على رئيس الفرع “اللواء محمد ناصيف”، لماذا خسرنا الجوﻻن؟! إجابته كانت تاريخيةً، مستوحاةً من مسرحية محمد الماغوط، ضيعة تشرين، دون شك، حفرتها في ذاكرتي، “يا ابني العدوان فشل؛ ﻷن السلطة التقدمية لم تسقط”.
والمفارقة أنّ آذار يحمل ذكرى احتفاليتين متناقضتين اليوم، ﻻ تؤكد على انقسام الشارع، بل تحمل في جوهرها، فكرةً عميقة الدلالات، قدرية المنشأ، رمزيةً مذهلة عبرت عنها الجماهير التي نزلت إلى الشارع؛ لتعيد عقارب الساعة، مؤكدةً أنّ الزمن الفاصل بين انقلاب 8 آذار 1963، والحراك الشعبي المناهض للأسد العام2011، لم يكن إﻻ سبعة أيامٍ هي تاريخ الثورة الفعلي، الذي أسقط انقلاب البعث على الدولة المجيدة بوجهها الحضاري، وسلم زمامها إلى آل اﻷسد.