أيمن العتوم | مدونات الجزيرة
القَصَص، كان – فيما أرى – أقدم الفنون الإنسانيّة، وأقربها إلى النّفس البشريّة، صحيحٌ أنّ المسرحيّة ربّما سبقت القصّة في النّصّ المكتوب، كمسرحيّة أوديب ملكًا لسوفيكليس على سبيل المثال الّتي ظهرتْ قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة، لكنّ المسرحيّة في النّهاية تروي حدثًا من أجل عبرةٍ من خلال أشخاصٍ يقومون بأدوارهم، وهذا لا يبتعد كثيرًا عمّا تفعله القصّة في تقنياتها.
لكنّ الثّابت، أنّ الكتب السّماويّة الثّلاث ذهبتْ إلى استخدام القصّة استخدامًا طاغِيًا إلى الحدّ الّذي يُمكن أنْ يُشكّل أكثر من ثلث القرآن وأكثر من نصف الإنجيل، وأكثر من ثلاثة أرباع التّوارة، فهي جميعًا تروي قصص الأنبياء، وقصص الطّغاة، وأناسًا صالحين وآخرين أشرارًا، وتُبِرز أحداثًا تتّكئ على مشهديّات فائقة الدّقةّ، وفائقة الجَمال كذلك. فمن أينَ جاءتْ إذًا هذه النّظرة السّلبيّة – نسبيًّا – إلى أولئك المُنهمكين في قراءة الرّوايات؟ فإذا كانت التّوراة تروي، والإنجيل والقرآن يرويان ويَقُصّان ويُخبِران، فَلِمَ كان هذا الوقوع في قناة الرّواية والغَضّ من شأنها، واعتبارها – عند بعضهم – فَنًّا مرذولاً؟
الرّواية الّتي تُغيّرك، خيرٌ من الكتاب الّذي يختبئ خلفَ ظِلال الفِكر أو العقيدة، ويستظلّ بمظلّة الدّين ولا يُحرّك فيكَ شيئًا لسطحيّته وسذاجته. أليستْ قِصّة يوسف عليه السّلام الّتي رُويتْ في سورةٍ كاملةٍ هي في المنظور الفنّي رواية مكتملة العناصر، في الأحداث والأشخاص، والأزمنة والأمكنة، والعُقد المتعدّدة، ومستويات الحِوار، ونوع النّهاية الّتي قرّرتْها؟! ثُمّ ها هو ربّ العزّة الّذي يرويها، يقول لنا في نهايتها: “لقد كان في قَصَصِهم عِبرةٌ لأولي الألباب”. فإذًا هناك غائيّة وراء هذا القَصَص أو هذا السّرد أو هذه الرّواية؛ سمّها ما شِئت.
الرّواية ليستْ خيالاً محضًا ولا واقِعًا محضًا، بل هي مزيجٌ منهما، ومن الجميل أنْ يخفّف الإنسان ألمَ واقعه بشيءٍ من أمل خياله، وجميلٌ أيضًا أنْ يجذبه خيطُ الواقع إليه كلّما شردَ به أفق الخيال.
فإذا كانت قراءة الرّوايات لا تُعدّ مضيعةً للوقت من هذا المنظور؛ فما الغاية من قراءتها إذًا؟ لماذا نحن نقرأ الرّوايات في هذه الأيّام أكثرَ مِمّا نقرأ أيّ جنس أدبيّ آخَر؟ من الجميل أنْ أطرح هذا السّؤال على بعضِ من نقشوا أسماءَهم في عالَم الرّواية، ونفكّر في إجاباتهم.
أورهان باموق، الكاتب وروائي تركي فاز بجائزة نوبل للأداب، سنة 2006م، يُجيب عن هذا السّؤال في كتابه (الروائي الساذج والحساس)، والذي كان عبارة عن تفريغ لمحاضراته في جامعة هارفارد في أمريكا:
نحن نقرأ الرّواية من أجل المتعة؛ من أجل التّأرجح بين المشاهد بسرعةٍ خاطفة؛ هكذا يقول أورهان باموق، موضّحًا من جديد.
صورنا في أعماقنا تتناثر مثلَ زجاجٍ لا يُسبَك، وحدها الرّواية تُشبهنا، تُخرج كلّ هذه الصّور الكامنة فينا من بحيرة اللاّوعي لتبرز على السّطح. ولهذا نقرأ الرّواية دون سواها
ولو أردتُ أنْ أجيب إجاباتٍ سريعةٍ على هذا السّؤال: لماذا نقرأ الرّوايات؟ فسأقول: لأنّ الرّواية تتميّز بقدرتها على إشباع الفضول الغريزيّ عند الإنسان في الاستِماع إلى الحكايات والأساطير، بكلّ ما فيها من غموضٍ وتشويق. لأنّ الرّواية تستطيع أنْ تلعب بمشاعر القارئ، بل وتستحوذ عليها، وهي قادرةٌ أبعدَ من ذلك على أنْ تجعله يعيش حالة سرنمة معها. لأنّ الرّواية قادرةٌ على أنْ تهربَ بكَ بعيدًا عن الحروب والكوارث والآلام والأوجاع، أو توقعك فيها كلّها، والهاربين يجدون فيها بُغيتهم، والوالِغون في ذلك يجدون بُغيتهم أيضًا.
وللّذين يبحثون عن التّفاصيل في قضايا الأفراد والمُجتمع، أو تفاصيل التّفاصيل من أجل أنْ يعيشوا المشاهد لن يجدوا أفضل من الرّواية لتُمكّنهم من ذلك. لأنّ مشاغل الحياة المُهلكة، والهموم المُتراكبة، واللّهاث وراء لقمة الخُبز، والبحث عن فرصةٍ للحياة في هذه الحياة يُراكم كثيرًا من الضّيق النّفسيّ والخبث الرّوحي، ولا يُمكن أنْ يتخفّف الإنسان منهما إلاّ بصحبةٍ كتابٍ يُدخِلك إلى عالَمه المسحور، ولا يتحقّق في جنسٍ أدبيّ مثلما يتحقّق في الرّواية.
الرّواية ليستْ خيالاً محضًا ولا واقِعًا محضًا، بل هي مزيجٌ منهما، ومن الجميل أنْ يخفّف الإنسان ألمَ واقعه بشيءٍ من أمل خياله، وجميلٌ أيضًا أنْ يجذبه خيطُ الواقع إليه كلّما شردَ به أفق الخيال، ولا شيءَ مثل الرّواية يفعل ذلك. ونحن بحاجةٍ في واقعنا أنْ ننظر في مرايانا – ربّما – كلّ يومٍ، نرى في تلك المرايا حُزننا وفرحنا، شكّنا ويقيننا، يأسَنا وأملنا، كُفرَنا وإيماننا، ولا مرآة مصقولةً ترينا هذه الصّور أكثر من الرّواية، فأيّ مرآةٍ أشدّ وضوحًا منها؟!
ولكلّ واحدٍ منّا ألفُ شبيه وشبيه، الفيلسوف والعاديّ، الشّيطان والملاك، السّيّد والعبد، الثائر والهادئ، المتمرّد والقانع، صورنا في أعماقنا تتناثر مثلَ زجاجٍ لا يُسبَك، وحدها الرّواية تُشبهنا، تُخرج كلّ هذه الصّور الكامنة فينا من بحيرة اللاّوعي لتبرز على السّطح. ولهذا نقرأ الرّواية دون سواها.
الفنون الأدبيّة متاحف تتعدّد فيها موجودات الشّعوب المختلفة وتراثها، فالشّعر مُتحَف، والمسرحيّة متحف، والرّسم متحف، والموسيقى متحف، ولكلّ متحف حجمه وألوانه ومعروضاته الّتي تميّزه عن سِواه، لكنّ أغنى هذه المتاحف، وأشملها، وأكثرها تنوّعًا هو متحف الرّواية، ومن أجل ذلك نذهب لكي نقرأ الرّواية.
لا أريد للشّعور وحده أنْ يحضر وبهذه الكثافة كما في الشّعر فحسب، ولا أريد للصّوت أنْ يكون مسموعًا على هذا النّحو كما في المسرحيّة فحسب، ولا أريدُ للموسيقى وحدها أنْ تنسابَ دون أنْ ترافقها مشاهد مُتخيّلة، ولا أريدُ للّوحة أنْ تتحدّد بأطرافها الأربعة، أريدُ عالَمًا متداخِلاً، فيه كلّ هذه الكثافة والحضور والتّعدّد والتّلوّن والحرّيّة، أنا أحتاج إذًا أنْ أقرأ الرّواية من أجل ذلك.
وماذا عن المُغامرة، أو المُقامرة بكلّ شيءٍ، ألا يكتسب هو الآخَر متعةً من نوعٍ ما؟! ماذا عن اللّوحات المتعدّدة، وعن المشاهد المُتباينة!! ماذا عن الانفِصال عن الذّات، والاندِماج في ذاتٍ مُحلّقة!! ماذا عن الذّهاب بعيدًا في عالَمٍ مجهولٍ أريدُ أنْ أكتشفه بوصةً بوصة؛ ألا يُمكن للرّوايات أنْ تحقّق لي كلّ ذلك؟! بلى.