نون بوست |
يرتبط حجم التغير الديمغرافي الحاليّ والمستقبلي في سوريا بنسبة السوريين الذين لن يعودوا إلى مناطق سكناهم التي كانوا فيها قبل عام 2011، وستحدد هذه النسبة بناء على جملة من المعطيات التي قد لا تتضح إلا خلال سنوات من الآن.
من أين جاء اللاجئون؟
استمرّ عدد اللاجئين السوريين بالتصاعد منذ عام 2011 وحتى اليوم، وبلغ عددهم يوم 28 من فبراير 2019 نحو 5.68 مليون، فيما يبلغ عدد النازحين ما يقارب 6.2 مليون شخص، أي أن نحو نصف السوريين أجبروا على العودة إلى بيوتهم، في أكبر أزمة تهجير قسري في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وأكبر مجتمع للاجئين في العالم.
تقديرات غير رسمية أشارت إلى أن نحو 70% منهم من العرب السنة و10% من المسيحيين و10% من الكرد ونحو 8.5% من التركمان، والبقية من طوائف أخرى
لا تنشر مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين معلومات عن الانتماءات الدينية والطائفية والعرقية للاجئين، بما يُساهم في التعتيم عالميًا على حالة التغيير الديمغرافي التي تحصل في سوريا، وتكتفي الدراسات الدولية التي تتناول اللاجئين السوريين بالإشارة إلى المكونات العرقية والدينية قبل عام 2011، بما يوهم القارئ غير المتابع أحيانًا بأن هذه النسب تنعكس بشكل متقارب على مجتمع اللاجئين.
ونظرًا لغياب المعطيات الموثقة، فإن من الصعب الجزم بهذه الانتماءات، لكن تقديرات غير رسمية أشارت إلى أن نحو 70% منهم من العرب السنة و10% من المسيحيين و10% من الكرد ونحو 8.5% من التركمان، والبقية من طوائف أخرى، وتتقارب هذه النسب مع تلك التي تنشرها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى عن أصول اللاجئين بحسب المدينة التي قدموا منها.
خريطة سوريا بحسب نسب التغير الديمغرافي فيها خلال الفترة من 2011-2019
أثر اللجوء وأعمال القتل على التركيبة الديمغرافية
وفقًا لتقديرات جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة فإن عدد العرب السنة انخفض بين عامي 2010 و2018 بنسبة 30%، لكن نسبتهم من إجمالي السكان انخفضت بنسبة 10.2%، وانخفض عدد الكرد في عام 2018 مقارنة مع عام 2010 بنسبة 1%، لكن نسبتهم إلى إجمالي السكان ارتفعت بنسبة 1.6%، وارتفع عدد العلويين عام 2018 مقارنة مع عام 2010 بنسبة 22%، وزادت نسبتهم إلى إجمالي السكان بنسبة 5.4%.
وبناء على تقديرات جامعة كولومبيا فإن كل المكونات في سوريا سجّلت عام 2018 زيادة في نسبها إلى عدد السكان الإجمالي، ما عدا ثلاث مجموعات هي العرب السنة والمسيحيون العرب والآشوريون، وهو ما يعني أنه وللمرة الأولى في تاريخ سوريا ينخفض عدد العرب السنة إلى أقل من نصف السكان.
خرج الكثير من اللاجئين لخوفهم من الاعتقال، إما نتيجة لمواقف أعلنوا عنها أو خشية من تصنيفهم أو اعتقالهم على أفعال لم يقوموا بها، كما حصل مع آلاف غيرهم
وتمكّن العلويون من تحقيق أكبر زيادة في النسبة لعدد السكان في 2018، تلاهم بفارق كبير على التوالي: الأكراد والإسماعيليون والدروز والشيعية الإمامية.
الحجم النهائي للتغيير الديمغرافي
لا يمكن وفقًا للمعطيات الحاليّة تحديد شكل التغيير الديمغرافي الذي ستستقر عليه الأوضاع في سوريا، إذ يعتمد هذا الأمر على عدد من سيعود من اللاجئين والنازحين إلى مناطق سكناهم الأصلية وأولئك الذي لن يعودوا، وهذا الأمر يرتبط بعدد من العوامل، أهمها:
1- شكل الحل السياسي
خرج الكثير من اللاجئين لخوفهم من الاعتقال، إما نتيجة لمواقف أعلنوا عنها أو خشية من تصنيفهم أو اعتقالهم على أفعال لم يقوموا بها، كما حصل مع آلاف غيرهم، ولا يُعتقد أن يعود هؤلاء طالما بقي النظام بشكله الحاليّ وأجهزته الأمنية قائمًا.
كل يوم إضافي في الغربة يعني انخفاض نسبة احتمالية عودتهم إلى سوريا (كمقيمين) بغض النظر عن نوع الحل السياسي الذي سيُطبّق في سوريا
ولا يبدو على المدى المتوسط أن النظام سيشهد أي تغيرات بنيوية، وخاصة في شقه الأمني، كما لا يبدو أن أيًا من الفاعلين الإقليميين والدوليين يرغب أو يستطيع تغيير هذه الأجهزة من ناحية تسلطها على المواطنين.
2- عامل الزمن
يبدأ اللاجئون حياة اللجوء عادة بحالة من رفض التعامل مع الواقع الجديد، وانتظار موعد عودتهم إلى موطنهم، كما يرفضون في تلك المرحلة القيام بأي عمل يبدو كإجراء للتأقلم مع واقع سيطول مثل تعلم اللغة الجديدة أو تأسيس عمل مستقر، إلخ.
لكن بمرور الوقت، يدخل اللاجئون في مرحلة التأقلم غير الاختيارية، ثم مرحلة التأقلم الاختيارية، وتعتمد الفترة التي ينتقل فيها اللاجئ من مرحلة إلى أخرى على طبيعة الدولة والمجتمع المضيف، حيث تساعد التسهيلات التي تقدمها الدولة المضيفة على الإسراع في إجراءات التأقلم، وهي الحالة التي يعيشها اللاجئون السوريون في أوروبا وتركيا بشكل خاص.
ومع قضاء الكثير من اللاجئين لسنوات عدة في الغربة، وتعلّمهم وتعلّم أولادهم للغات الدول المضيفة، ودخول الكثير منهم في إجراءات الحصول على جنسية هذه الدول، إلخ، فإنّ كل يوم إضافي في الغربة يعني انخفاض نسبة احتمالية عودتهم إلى سوريا (كمقيمين) بغض النظر عن نوع الحل السياسي الذي سيُطبّق في سوريا، وستنخفض بشكل أكبر إن حصلوا على إقامات دائمة أو جنسيات أجنبية، كما ستكون أقل بالنسبة للجيل الثاني منها بالنسبة للجيل الأول من اللاجئين.
لا يُعتقد على المدى المنظور أن تبدأ عملية إعادة الإعمار قبل إقرار الحل السياسي الذي لن يتم في الغالب قبل سنوات من الآن
وينطبق ما سبق على معظم اللاجئين السوريين في أوروبا، وعدد كبير من اللاجئين في تركيا.
3- إعادة الإعمار وتعويضات المتضررين
أدّى القصف الجوي والصاروخي على وجه الخصوص إلى دمار واسع في عدد من المدن السورية، ويُقدّر عدد المنازل التي دُمرت كليًا أو جزئيًا في سوريا بأكثر من ثلاثة ملايين منزل على الأقل، بالإضافة إلى الدمار الذي لحق بالقطاعات الخدمية المختلفة من مدارس ومستشفيات وبنى تحتية.
وتنعكس هذه المعطيات في فرص إعادة اللاجئين إلى سوريا، فحتّى لو توافرت الظروف السياسية والأمنية التي تسمح للاجئين بالعودة، فإنهم لن يفعلوا إلا إذا كانت ظروف حياتهم في بلد اللجوء أسوأ بكثير من حياة النزوح في بلدهم (مثل أوضاع معظم اللاجئين في لبنان)، ولا يُعتقد على المدى المنظور أن تبدأ عملية إعادة الإعمار قبل إقرار الحل السياسي الذي لن يتم في الغالب قبل سنوات من الآن.
كما أن من غير المعروف ما إذا كانت عملية إعادة الإعمار سوف تشمل إعادة بناء المنازل المهدمة، وما إذا كان بعض هذه الأماكن سيتم تغيير طبيعتها بحيث تتحول المناطق السكنية إلى تجارية مثلًا أو تحويلها إلى شكل سكني آخر، كما في بعض المشاريع التي تُعلنها الحكومة السورية منذ سنوات.
يساعد مرور الوقت في تثبيت مخرجات التغير الديمغرافي الحاليّ، إذ إن مزيدًا من اللاجئين سوف يفقدون الرغبة بالعودة إلى ديارهم خاصة إذا لم يتحقق حل سياسي يضمن أمنهم
حيث إن قيام مشاريع أخرى يعني إما تعويض السكان الأصليين بمبالغ مالية أو بيوت في أماكن بعيدة عن مناطق سكناهم الأصلية، أو إسكانهم في مجمعات لا تشبه البيئة التي كانوا يعيشون فيها، وفي كل هذه الخيارات لن يجد من فقدوا بيوتهم في هذا المكان الجديد “وطنهم” الذي عرفوه من قبل، وسيُفضلون الغربة التي يعيشون فيها، لأنها تؤمن له معطيات لن توفرها “غربة الوطن الجديد”.
خاتمة
يساعد مرور الوقت في تثبيت مخرجات التغير الديمغرافي الحاليّ، إذ إن مزيدًا من اللاجئين سوف يفقدون الرغبة بالعودة إلى ديارهم، خاصة إذا لم يتحقق حل سياسي يضمن أمنهم، ولم يعودوا إلى ذات مناطقهم وبيوتهم التي اضطروا للخروج منها.
وتتحمل الأطراف الدولية المعنية بالحل في سوريا مسؤولية توفير البيئة السياسية اللازمة لعودة اللاجئين بشكل آمن، خاصة أن المجتمع الدولي ما زال يمسك بيده مفاتيح تمويل إعادة الإعمار التي لا يملكها حلفاء النظام ولا يستطيعون من دونها تحويل تقدمهم الميداني إلى وقائع سياسية.