صهيب إنطكلي |
وبينما أنا متوجه إلى البيت بعد أن أتعبني عمل يومٍ فيه الكثير من التفكير والقليل من الجهد الجسدي؛ فإذا بأطفال أمامي يلهون بقمامةٍ أشعلوا النار فيها، كما ظننت للوهلة الأولى، اقتربت منهم أكثر، ونظرت فإذا الحريق يتلظى من تلة كتبٍ صغيرة؛ يا إلهي! كانت النار تأكلُ الصفحات والمعاني؛ أعداد كثيرة وقديمة من (مجلة العربي) تطفو على سطح النار؛ كتبٌ في الأدب والدين والسّياسة.. حاولت إبعاد الأطفال وأخمدت النار وسحبت ما أستطيع من كتبٍ قيّمة قبل أن تصبح رمادًا.. كان الأطفال الفرحون بالنار يشعرون بالاستغراب؛ ربّما أفسدتُ عليهم حفلة شواء تلك الكتب.
وأنا في خضم جمعي لتلك الكتب يأتي طفل من بعيد حاملاً (طنجرة) كتب جديدة، وصل إلينا وأفرغها على عجل فوق السابقة. وبِكيس أسود صغير جمعت المجلات والكتب التي لم تحترق وأنا أقرأ بعيونِ الأطفال سؤالاً: (عمو ليش مهتم بهل الورق؟!) سألت الطفل الذي جاء بالكتب: “عمو لمين هي الكتب” فأجابني: “والله يا عمو لأخي المسافر؛ أمي عم تعزّل وقالت لي احرقها؛ ما منّا كراكيب في البيت”
هذا الحادث ليس حالةً شديدةَ الخصوصيّةِ هنا؛ هو انعكاسٌ لحال مجتمعنا الذي قلى العلمَ والمعرفة ولم يعرف لهما قيمة، ونحن اليوم في آخرِ الرّكْب، ربما لا نتصور أن يرمي أحدهم شيئًا من مقتنياتِ بيته، فهي غالية على قلبه جدًا؛ ولكنّ الكتب وما تحويه ربما هي عند الكثير (كراكيب) في البيت لا لزوم لها.
ومع تلك الحادثة التي مررت بها، تذكرت بيتي الذي استأجرتُه في إحدى القرى النائية؛ إذ إن صاحب البيت أحبّني لأني (حبّاب وعاقل) على حدّ تعبيره؛ فاجأني ذات صباح بـ (طنجرة كتب) قال: “والله يا صهيب أنتَ أستاذ؛ قلت لحالي إلا ما تلزمك هي الكتب؛ كانت على السقيفة؛ خبتها خالتك الحجة، خذها؛ أحسن ما نكبها”
ربما هذه المشكلة (رميُ الكتبِ) لها في مجتمعنا مشكلة معاكسةً لها تماماً، لكنّها لا تقل عنها بؤساً؛ إنّها مشكلة اقتناء الكتب، لكن ليس بغرض قراءتها والغوص في معانيها إنما للزينة! فالبعض يحاول أن يشتري الكتب ذات التجليد الفاخر الجميل التي تكوّن سلسلة توحي بالجمال؛ فالمقياس هو الجمال وليس المحتوى أبداً، وكذلك ثمة فئة متعلمة تشتري الكتب على أمل القراءة، فتسكن المكتبة سنينًا ويسكنها الغبار ولا يقرأها جراء التسليف وأسباب أخرى، حتى تأتي كتب غيرها فتصيح السابقة في عداد الأموات وهكذا..
يحضرني في هذا لقاءٌ مع صديقٍ قديم كان يعمل في مكتبةٍ مشهورة؛ لم يُتم المرحلة الابتدائية لكنّه تأثر بأكوام الكتب التي يجالسها كلّ يومٍ في عمله وبات يعرف الجميل منها؛ حصلَ أن شاهد وهو في ضيافتي مكتبتي المتواضعة التي كان فيها الكثير من الكتب المدرسية والمجلات والكتب الأخرى؛ قال بعد تفحص سريع: “بكرا بس تجي لعندي بتشوف الكتب الحلوة؛ كلها جديدة وأحلى وفخمة؛ اجتني من الشام خصوصي”
ابتسمت حينها وسألته عن أسمائها؛ قال بعد صفنه: “والله ما بعرف، بس شي على كيفك.” وكان قصده أنها جميلة في التجليد والحجم والزخارف ..
قالوا: “إنّ قراءة الكتبِ مفتاح العقل، ومفتاح العلوم النافعة، ومفتاح الحضارة، ومفتاح السعادة والريادة للأفراد والأُمَم.”
نحن في آخر ركبِ الحضارة، وفي آخر الأمم، ولا ننتفع بعلوم، وعقولنا مقفلة.. كل هذا لأننا ببساطة أضعنا المفتاح، وكلنا مطالبون بإيجاده، لنصحو وننقل الكتب من مرحلة (الكراكيب والزينة) إلى مرحلة القراءة الواعية والغوص في المعاني وإحياء القراءة في أمة اقرأ.