سامر خير أحمد |
غائبٌ عن بال أكثر العابدين، بالصيام وبغيره من شعائر العبادات، أن مشروعية العبادة تكمن في دفعها الإنسان إلى التفاعل مع الكون، وإدراك وحدته مع ما فيه من كائناتٍ وعناصر. الصيام، من بين تلك الشعائر، يقول للإنسان: خذ من الكون ما تحتاجه فقط، وإياك أن تتمادى إلى الإسراف والتبذير. اعمل جاهداً على مساعدة من يحتاجون، بأن تعطيهم ما يزيد عن حاجتك. فإن استطعت أن تبلغ هذا السلوك المتوازن، كانت عبادتك مفيدةً لك ولغيرك، وأنجزت منها ما رمَت إليه.
وفائض عن القول أن عادات الصيام المعاصرة قد عاكست ذلك الجوهر الذي يرنو إليه الامتناع عن الطعام والشراب. فائض عن القول حقاً أن صيام أكثر الناس، هذه الأيام، أفرغ تلك العبادة من مضمونها، ذلك أن سلوك الناس مع الصيام لا يختلف أبداً عن سلوكهم مع سائر العبادات والشعائر، إذ ذهبوا بها بعيداً عن غاياتها، وجعلوها بلا معنىً يتصل بنجاح الإنسان في الكون، وبنائه وإعماره، فضلاً عن أن يكون المؤمنون قدوةً في تفاعلهم مع الكون ومع مخلوقاته، وفي تفاعلهم بعضهم مع بعض، باتجاه التوازن والتكامل.
في هذا السياق، علينا أن نفرّق بين مفهومين للعلاقة مع الله، تفترق معهما ماهية ما يمارسه المرء من عبادة ومضمونه. الأول هو الإيمان بالله، إيماناً مستقلاً عن علاقة الإنسان “التوازنية” مع الكون، والثاني هو الإحساس بالله؛ بمعنى أن يقترن الإيمان بالله مع الإيمان بأنه رب كل شيء في هذا الكون الواسع، من مخلوقاتٍ وعناصر، وأنه تعالى معني بها كما هو معني بالمؤمن نفسه. في المفهوم الثاني، يكون إيمان المرء صنواً للإحساس بوحدته مع الكون، ودافعاً لتيقنه أنه لن يكون عابداً حقيقياً ما لم يراع كل ما حوله في هذا الكون من بشر وشجر وحجر.
أما الحالة الأولى، أي الإيمانية المستقلة عن الإحساس بالكون، فإنها ما يورد المرء الأنانية، من دون إحساس بتأنيب في الضمير! ألا يمكننا القول إنها الحالة الأكثر شيوعاً بين المؤمنين؟ بلى. وهذا تفسير أن الناس قلوبهم شتى، وأن العبادات لا تعدو كونها مظاهر لا تثني مصلياً عن إغلاق الشارع العام بسيارته، ولا صائماً عن الإساءة لجيرانه، فكلٌ يظن أنه بلغ المنى بعبادته، من دون أن يفهم أن عبادته تلك لم تأخذه إلى حيث يجب أن يذهب في فهم الكون والحياة.
ذلك هو السبب الجوهري الذي يجعل أكثر العابدين غير متصالحين مع ذواتهم، أي لا يحسّون بسلام داخلي، يترافق مع أدائهم تلك العبادات أو ينتج عنها. إنهم في الحقيقة لا يحسون بالرضا، ولو أحسّوا به لما انزلقت عباداتهم لتكون مظهرية لا جوهرية، ولانعكست من دون شك على علاقاتهم بالآخرين من حولهم.
والحال أن التحوّل بشعائر العبادات من أن تكون وسيلة لضبط الحياة، يقترب فيها العابد من أقصى حالات المثالية المتاحة للإنسان، إلى أن تكون غاية بذاتها، قد حرم أكثر العابدين من ثمار تلك العبادات، على صعيد الرضا النفسي الذي يعد ضرورة أساسية لإطلاق طاقات الإنسان في العمل والبناء. والمؤسف أكثر أن معظم سلوكيات العابدين تجاه عباداتهم قد أورثتهم عكس مقاصدها، فجلعتها مجالاً للتعطيل عن تجويد العمل، ولتبديد الطاقات، وللتطرّف تجاه كائناته وموجوداته عوضاً عن التوازن معها.
وما يُقال عن الصيام يُقال مثله عن الصلاة والحج والزكاة، وعن سائر العبادات وشعائرها التي باتت، في نظر أكثر العابدين، غاية في ذاتها، وهدفاً يرتاح فاعلها لمجرد فعلها، ثم ينصرف إلى حياته فلا يتورّع ولا يتفكّر، مغفلاً أنها بوابات لإصلاح نفسه عبر إصلاح علاقته بكل ما حوله من أحياء وموارد وعناصر.
وعلى هذا، لن يبلغ المرء الرضا، ما لم يغادر تفكيره الانفصالي عن الكون إلى التشبّع بفكرة الوحدة معه. حينها لن يعود أنانياً، يظن علاقته مع الله مساراً مستقلاً وخطياً، بل سيفهم أن الوصول إلى الله يمر عبر علاقته مع مخلوقات الكون وعناصره، وأن العبادات هي بوابات للولوج إلى علاقةٍ حسنةٍ مع الناس والمخلوقات وكل ما في الكون، كي يتيسر له لو أحسن أداءها، بلوغ الله باعتباره جزءاً من هذا الكل الذي أوجده الله.
المصدر: العربي الجديد