جاد الغيث |
بينما كان عامر يتابع غرف الأخبار عبر جواله والتي لم تخرج عن محتوى القصف والتدمير “قوات النظام تقصف بالمدفعية الثقيلة قرية زيزون بريف حماة الغربي، الطيران الحربي الروسي يقصف بالصواريخ قرية السرمانية بريف حماة الغربي، غارة من الطيران الحربي الروسي بالصواريخ على أطراف بلدة معرزيتا بريف إدلب الجنوبي، جرحى مدنيون جراء غارات طيران النظام على قرية ديرسنبل بجبل الزاوية..” كان هناك صوت طائرة حربية تحوم في الأجواء، انقبض على إثرها قلب عامر، فرمى جواله وراح يقرأ في (أوراق الورد) للرافعي.
فجأة هوى صاروخ في وسط البيت العربي، كان عامر يقرأ في كتاب أوراق الورد بجانب البركة الخاوية من الماء، ضم الكتاب إلى صدره بحركة رعب عفوية، لكنه لم يستطع أن ينهض، فالحجارة المتطايرة وارته في بيت جدته العربي القديم، وضمته إلى صدرها بحنان كما فعل هو تمامًا مع الكتاب.
سال دمه على الكتاب، وامتزجت الحروف بقطرات الدم البريء، فتفاعلت الكلمات مع الدم، وصارت رمادية قاتمة حين اختلطت بذرات الغبار الكثيف!
لقد كانت مجرد غارة جوية روسية على (اللطامنة) قرية عامر في ريف حماة، ففي العاشرة من صباح الإثنين، اليوم الأول من رمضان 2019، استقر جسد عامر تحت الركام، وكانت الشمس تختبأ بين الغيوم حينا وتظهر حينًا آخر، وقد تركت ظلالاً حزينة على شجرة الليمون المكسوة بالغبار، لم يبقَ من الشجرة سوى جذعها المتمسك بالتراب بإصرار رهيب، أغصانها تبعثرت ورائحة زهرها انتشرت مع نسمات الربيع.
أما الأشياء المحطمة بفعل القصف، وتلك المدفونة تحت سقف البيت من أثاث خشبي وملابس لها ذكرى، وصحون من البلور قديمة، وأدوات نحاسية ورثت من الأجداد، فقد اختفت بين الأنقاض، كما اختفت صورة جد عامر الذي رحل منذ سنوات بعيدة، الصورة التي كانت بالأبيض والأسود ظلت معلقة على الجدار لأكثر من عشرين سنة!
كانت جدة عامر تكلم الصورة يوميًا، وتمسح غبار زجاجها بين وقت وآخر، تتمتم الجدة بكلمات ممزوجة بالآهات كأن الجد يسمعها وهي تخبره عن حال البلد ودماء الأبرياء وتروي له أوجاعها وذكرياتها.
واليوم في غارة جوية روسية اختفت الصورة بين أنقاض البيت، ودفنت تحت الأنقاض مع الجدة وعامر الشاب العشريني الذي جاء ليمضي اليوم الأول من رمضان بصحبة جدته.
وأما كتاب (أوراق الورد) الممتلئ بالمشاعر الراقية، فإنه يعود بذاكرته إلى سنوات بعيدة، ويتذكر أصوات آلات الطباعة وهي تترك أثر حبرها على ورقه الناعم، ويتذكر الأزقة الضيقة لحي باب النصر في حلب القديمة مكان موقع المطبعة التي طبعته، حيث كانت المكتبات والكتب القديمة والجديدة التي تنتقل من حلب إلى المحافظات المجاورة.
انتقل الكتاب من يد إلى يد، ومن بيت إلى بيت، كان يشم رائحة الياسمين وزهرة النانرنج ويتمتع في الشتاء بدفء احتراق الحطب وهو يغازل أصابع القراء.
وآخر ما حدث له صاروخ هوى فانتهت رحلة حياته في حضن عامر، ودُفنا معًا تحت الأنقاض.
أما عامر فقد كان يقلب صفحات كتابه المفضل ويتخيلها ممزوجة بدماء لا يعرف أصحابها، فأكثر من مليون شهيد غادر سورية على مدار ثمانية أعوام، وبقيت الكلمات صامتة متألمة، ولم يتوقع أبدًا أن تمتزج قطرات دمه بحروف كتابه.
أرجوكم لا تطؤوا الأنقاض بأرجلكم، فقد يكون تحتها أرواح ماتزال حية، وذكريات للأشياء والأحجار ماتزال تنبض.
مُروا بحب وحزن ووقار بالقرب من الركام، وتذكروا أنهم السابقون وأنتم اللاحقون.