عبد العزيز عباسي |
تُعدّ رواية أولاد حارتنا رواية أثارت جدلاً واسعاً في الوطن العربي خاصة أنّها تناولت موضوع الله والدين والأنبياء والعِلم، ولذلك اختيرت من ضمن أفضل الروايات العربية المئة الأفضل في تاريخ الرواية العربية، وقد أثارت زوبعة من النقد العارم خاصةً من طرف الأزهر الشريف والسلطة الحاكمة في تلك الفترة.
وقتها تم تكليف لجنة برئاسة (هيكل) لقراءة الرواية، غير أنّ هذا الأخير خرج برأي غريب وهو أنّ الكاتب (نجيب محفوظ) استخدم الرمز ولم يكن يقصد أي دلالة أو إسقاط لهذه الرموز.
في هذا المقال سنحاول مناقشة هذا الأمر ولكن بعد أن نُطلع ونعرّف القارئ بهذه الرواية وأبوابها ومواضيعها ونذكر أن اختيار الأسماء في الرواية اختيار ذكي لا يمكن فيه الفصل بين الرمز وما رُمز إليه، مع التنبيه أنّ الكاتب نجيب محفوظ صرّح بضرورة فصل الرمز وما رُمز إليه، وذلك في لقاء تلفزيوني له دافع به عن الرواية.
حالما تشرع في القراءة يستقبلك الباب الأول الذي يحمل اسم (أدهم) وهو يشير به إِلى آدم، وهناك شخصية (الجبلاوي) وهنا مربط الفرس، فالجبلاوي يرمز إلى الذات الإلهية أو فكرة الله، وقد يتساءل البعض: كيف ربطنا بين الاسم والدلالة؟ ولكن الجواب بسيط، فمحفوظ يصف هذا الجبلاوي بالجبار والقديم وصاحب الجبروت الذي لم يره أحد من الحارة، ولا أحد يعلم من أين جاء صاحب البيت الكبير الذي يشار إليه بأنه هذا هو جدنا الذي جاء الجميع من صلبه الذي تنسج حوله حكايات الحارة في القهاوي، يقول محفوظ في ذلك: “هو أصل حارتنا، عاش فيها وحده وهي خلاء خراب.” ويتحدث عن بيته ويصفه بالحديقة، وهي ترمز إلى الجنة، وقد دعا أولاده ذات يوم وهم أدهم، وهو آدم، وإدريس وهو ابليس، وعباس ورضوان وجليل، وهو بقصد بهؤلاء الثلاثة الآخرين الملائكة؛ لأنه يصفهم بمخلوقات شفافة نورانية ليس لديهم عيال ولا يعصون الأوامر.
أما أدهم، فهو آدم لا مجال للشك في ذلك، ويوضح ذلك حديث الجبلاوي عنه واختياره له لكي يدير الوقف الذي يملكه الجبلاوي، ولكن بإشراف الجبلاوي نفسه، وهنا يعترض عباس وجليل ورضوان على هذا القرار، ولكن المعارضة الكبرى والرفض أتى من إدريس نفسه الذي لا يقبل الهوان ويشير إلى الفرق بينه وبين أدهم، فماذا نريد أكثر من هكذا دلالات حتّى نقول: إنّه استخدم الرمز ووظفه بطريقتين ظاهرة ومستترة؟! ويدلُّ على ذلك أسماء أولاد أدهم وهما: (قدري وهمام) أمّا قدري فهو قابيل، وهمام هو هابيل، ويُلاحظ التقارب العجيب في الحروف بين أسماء قدري وإدريس، وأسماء همام وأدهم، وهو ليس تقارب في الأسماء وحسب، بل تشابه في الشخصيات، فقدري يشبه إدريس في كل شيء، ففي إحدى الحوارات بين قدري وهمام يتمنّى همام رؤية جده الجبلاوي فيخاطبه قائلًا : “لن تجده شيئًا خارقًا، فهو شبيه بأبينا أدهم، أي آدم، أو عمنا إدريس، أي إبليس الذي يتزوج ابنته هند، فقدري ابن أدهم، وكأنّ الكاتب نجيب محفوظ يتحدث هنا عن مُعضلة الشر المعروفة في الفلسفة وهو يشير بوضوح إلى أنّ هذا الشر مصدره إبليس، أي أنّ قدري مشى على طريق إبليس حين قتل أخاه كما جاء في الديانات السماوية الثلاث.
ويُكمل الكاتب نجيب محفوظ في رسم صورة هذه الحارة الكبيرة التي تتفرع إلى أحياء عديدة، منها حي يُدعى حي آل حمدان الذي يحكمه ناظر الوقف، وهو يقصد به الفرعون، أما آل حمدان فهم اليهود، ومنهم شخص يُدعى جبل، وهو النبي موسى دون أدنى مجالٍ للشك بالأمر، ويدل على ذلك أمور كثيرة منها أنّ زوجة هذا الفرعون هي التي ربَّت هذا الجبل عندما وجدته في الماء، و يُقال إنّ اسم موسى في العبرية موشى، وهو يعني ابن الماء، وهنا تبدأ في هذا الحي صراعات بين جبل وفتوات ناظر الوقف بسبب مطالبة جبل بحق آل حمدان في الوقف، تنتهي هذه الصراعات بانتصار آل حمدان على ناظر الوقف وهو الفرعون بمعجزة شق البحر وغرق جنود الفرعون فيه، والكاتب نجيب محفوظ يذكر كيف أنّ جبلاً هذا تعلّم اللعب بالثعابين من رجل التقى به سابقاً، وقد أفاده هذا الشيء في تحقيق انتصاره على ناظر الوقف، وهناك شخصية لطيفة تفضل الدعوة إلى الحب والتسامح بين أهل الحارة، والغريب أنّ اسم هذه الشخصية هو رفاعة، وهو السيد المسيح؛ لأنّ الله رفعه إلى السماء كما جاء في الروايات الإسلامية، ولكنَّ المثير للفضول هو وصف محفوظ حيّ آل قاسم بالجرابيع؛ لأنّهم ضعفاء يتقاتلون فيما بينهم، ومن ثمّ ينجح قاسم بتوحيدهم ويطالب بحقهم الوقف.
وآخر الشخصيات وأعجبها شخصية (عرفة) وهو العلم الذي ينجح في نهاية بحثه بالوصول إلى بيت الجبلاوي الذي بقي لفترة طويلة مختفياً، وعرفة هذا يمتاز بالذكاء وإجراء التجارب الخطيرة والغريبة والمخيفة.
من هو عرفة؟ ومن هم جبل وقاسم ورفاعة؟ هل ذهب محفوظ إِلى أنّ العلم استطاع كشف الحقائق التي كانت أموراً غيبيةً في الأديان؟ وما قصة الفتوات في هذه الرواية؟ هل هم رجال الدين؟ أم علماء السلطان؟ أم تجار الدين كما وصفهم نيتشة في كتابه (هكذا تكلّم زرداشت) لأنّ توصيل الحقيقة أمانة؟!
وممَّا يجب ذكره هنا أنّ نجيب محفوظ قبل الحديث عن أيِّ شخصية تراه يطلع ويحيط بأدق التفاصيل عن هذه الشخصية من خلال التاريخ والبحوث، وهذا ظهر جلياً في حديثه عن آدم وحواء وإبليس، فقد رسم لهم شخصيات ٍ تتطابق مع ما لهذه الشخصيات من أبعاد دينية موروثة.