جاد الغيث |
لأنني محروم من أمي منذ ما يزيد عن خمس سنوات، فقد كنت أرى في اهتمام أمهات أصدقائي وعطفهنَّ عليّ ما يملأ قلبي بحنان افتقده، ويعيد الحياة إلى صحراء وجودي القاحلة الخالية من عاطفة الأم، ولكن مع والدة صديقي (حميد) كنت أشعر بوجود حقيقي لأمي، ليس لأنها تشبهها في الطيبة والكرم فقط، بل لأن (أم حميد) كانت أمًّا لأبناء الثورة، من شباب كثر يعيشون بعيدًا عن أهلهم، بلا زوجة أو عائلة، في قلوبهم حبٌ للثورة وأصدقاء مخلصين.
كانت (أم حميد) تعطف على كل من حولها، تُعدُّ طعامًا شهيًّا، وتدعونا إلى الغرفة الطويلة ذات الشبابيك العالية، فنأكل ما لذَّ وطاب من طبخات حلبية أصيلة، على وقع سقوط براميل متفجرة بعيدة.
كان يحلو لها أن تناديني بالأستاذ، وكان صوتها يغرد فرحًا وهي ترحب بي كلما طرقت بابهم، لتستقبلني بلهفة الأم الحنون، ولا يمكن أن أغادر بيتهم دون وجبة غداء أو عشاء، تجالسني لتشكو لي همومها وتدعو الله لنا بالنصر والثبات.
كان لفنجان القهوة معها طعم آخر، وكم كان لطفها شديدًا حين تستأذنني في تدخين سيجارة!
كانت تنفث مع دخانها آهات وآهات، وكنت أشاركها بسيجارة واحدة فقط بغية المؤانسة، فيأخذنا الكلام والبوح لوقت طويل لا نشعر بمروره.
لم أعد أذكر آخر مرة التقيتها، ولكني لا أنسى وجهها الممزوج بالحزن والأمل معًا، وطعامها الطيب الممزوج بالحنان، كنت أعبر في طريقي إليهم من (باب النسرين) أجمل أبواب حلب القديمة وشاهدها الذي لا يُنسى ولا يُقهر.
التقيتها مرة أمام صنوبر الماء في جامع قديم قرب بيتهم في (حي الجلوم) كانت تنتظر عبوات الماء أن تمتلئ، ويومها كان الماء شحيحًا في حلب الشرقية بكاملها، حملتُ عبوات الماء نيابة عنها وسبقتُها إلى البيت، ومع كل خطوة كان لسانها لا يكف عن الدعاء لي.
انقطع صوتها من عالمي بعد خروجنا من الحصار، وانقطع صوت صلاتها في ظهيرة اليوم الرابع من رمضان 2019، حيث غادرت روحها جسدها المُتعب، بعد جلطة دماغية ألزمتها الفراش لأكثر من شهر، حزنًا على زوجها المريض الذي لم يشفع له مرضه وعمره الذي تجاوز الستين، من أن يساق بقسوة ووحشية إلى أحد فروع الأمن وذلك قبل شهرين من وفاتها، وبعدها قِيل لهم إنه دُفن في مقبرة جماعية قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة!
ودَّعت (أم حميد) الحياة بعينين مفتوحتين إحداهما كانت تتمنى رؤية (خالد) ابنها المعتقل في سجون الأسد، والأخرى كانت تتمنى أن ترى حفيدها القادم، الذي بقي على ولادته أقل من شهر.
كان حزنها سيُمحى لو أنها حملته بين ذراعيها وقبلته، لكن الله اختار لها الحياة الآخرة.
كم من أمهات مثلها تركنَ بيوتهنَّ وخسرنَ أزواجهنَّ وبقينَ مكافحات بجانب أولادهنَّ حتى الرمق الأخير.
ليالٍ طويلة أمضتها هذه الأم في المشفى بجانب سرير (حميد) الذي أُصيب إصابات عديدة أيام المظاهرات السلمية، كان قلبها يبكي ووجهها يبتسم برضى.
وكم عانت، وهي المريضة، من انقطاع أدوية السكر والضغط في فترة حصار حلب الشرقية، دون أن تشكو أو تيأس، وكلما اشتد الكرب تزداد يقينًا بالفرج.
وكم بكت عيناها شوقًا لبناتها في تركيا وألمانيا، وحين جاء الفرج بالعودة إلى حلب الغربية حيث تسيطر قوات النظام، كان ذلك الفرج ممزوجًا بألم وقهر جديد، لقد اعتقلوا ابنها (خالد) عند الحاجز الأول، وماتت دون أن تراه.
لقد عبَرت هذه الأم المباركة عتبة الحياة لتنضم إلى ملايين الأمهات الصابرات المحتسبات اللواتي ارتقينَ للسماء، وهناك ترتاح روحها المرهقة المرهفة ويصدح صوتها بالدعاء لنا، وكأني مازلت أسمعها تردد أدعية الصباح والمساء وأدعية الفرج والنصر وكشف البلاء…