علي سندة |
لن يموت التراث عند السوريين رغم ثماني سنوات من الحرب يُعتقد فيها أنها أكلت أهل التراث وليس فقط التراث نفسه ببعديه المادي واللامادي، لن يموت لأنه لغةً من التوارث، أي أنه يُورث جيلاً عن جيل، والسوريون باقون ما بقي الحق.
الذي دعاني للحديث عن التراث السوري ما رأيته إبَّان صلاة العيد داخل المسجد وخارجه من لباس السوريين التراثي الذي تزين به الكبار وبعض الشباب المهتمين رغم قلتهم، إذ لم أتخيل وأنا في صلاة عيد الفطر بعيدًا عن حلب والوطن، أن أتصور نفسي في أحد مساجد حلب القديمة والمصلون يتوافدون إلى المسجد بلباسهم العربي المتنوع الذي يجهزونه قبل أسبوع لأجل هذه المناسبة التي تُتيح لهم الفرصة لارتدائه في أول يوم العيد وبعضهم طيلة أيامه وبعده.
ذلك المشهد أعادني إلى مدينة حلب مهد التراث والأصالة، فتحركت الذكريات للحديث عن التراث فيها من باب (اللباس العربي) فقط وارتباطه بالمناسبات، إذ إن الحديث عن عموم التراث فيها لا يتسع له المقام، لقد أعادني ذاك المشهد إلى سوق اللباس العربي وموسمه خلف الجامع الأموي الكبير وفي صحنه حيث حلقات البيع بعد العصر التي يرتادها عشاقها فقط، إلى أنواعه وتفاخر (الَّبِّيسَة) به، إلى طريقة الاعتناء به والخوف عليه من قِبل أصحابه التي تصل إلى إخراج من خزانة الملابس وفتحه للتهوية في البيت كل فترة مخافة (العِت) وتأمله طيلة اليوم المشمس حتى تشبع العين من جماله وتهدأ نفس المُحب الذي يتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء حيث كان هذا اللباس جزءًا من حياة الناس اليومية واليوم صار تراثًا وغريبًا حتى في بيئته، وبعد فترة التهوية يُعاد إلى خزانة الملابس بكل رفق وحُبِّ مع قطع صابون الغار الحلبي وشيء من (النفتلين) كيلا يلحق القماش حشرة الملابس، تذكرت مناظر الرجال والشباب وهم يمشون بكامل أناقتهم العربية يوم العيد، عدت بالذكرى إلى سوق (الدارع) في المدينة القديمة الخاص بخياطة اللباس العربي وانشغال الخياطين ووصلهم الليل والنهار كي يُسلموا طلبات (الَّبِّيسة) ولا يخجلوا معهم.
قبل الانتقال إلى وصف اللباس العربي الحلبي وارتباطه بالمناسبات، أذكر أنه عندما كان القصف على أشده في أحياء مدينة حلب الشرقية وسقوطها، كان الناس وقتها يحملون معهم ما يستطيعون حمله من أمتعة تقيهم برد الشتاء، ويحملون ما تبقى من الطعام الذي يُعينهم على الحصار، لكن أحد الثوار العائدين من جبهة القتال المُتهاوية أدرك بيته قبل دخول مليشيات الأسد بساعات قليلة، فحمل معه حقيبتنان فقط على عجالة، الأولى ما تبقى من أطعمة، والأخرى اللباس العربي الخاص به. تلك القصة سمعتها إبَّان تهجير أهالي مدينة حلب أواخر العام 2016 وأعتقد أنها تُغني عن ذكر كل الأسباب التي تؤدي إلى صون تراث ما وحفظه وتوارثه عبر الأجيال، فبأولئك الأشخاص يستمر توارث التراث بكل أبعاده وينتقل معهم حيث حلوا وارتحلوا، فلا غرابة إذًا إن رأينا في تركيا أو أي بلد في المهجر زيًّا شعبيًّا خاصًا بالسوريين؛ لأنهم حفظوه ونقلوه معهم في حقائبهم أنى توجوها، فهو هويتهم وذاتهم، بل إن ما نشاهده في مدينة إدلب التي احتضنت كل المهجرين من كافة المحافظات السورية عند خروجهم من صلاة العيد وهم يرتدون اللباس الشعبي التقليدي كل حسب مدينه وتراثه في اللباس ويؤدون العراضات ويقولون الأهازيج رغم الجراح، يُؤكد ذلك الانتماء والحرص على نقل التراث كأنه بمنزلة الروح للجسد.
اللباس العربي الحلبي بين الأصالة والتقليد
يتنوع اللباس العربي الخاص بالرجال في مدينة حلب، لكن دلالة اللفظ تستدعي مباشرة “الشروال الحلبي الذي يختلف عن الشامي والتركي وغيره كونه يأتي عريضًا ومرفوعًا عن الأرض وعرضه 3 أمتار يتم تطبيقه بعناية وحِرفية أثناء لباسه وهو من الجوخ الإنكليزي بعكس باقي الأنواع ومزينًا بالخرج على جانبيه بقناديل وشربات، والشالة العجمية التي تُعد أغلى قطعة في اللباس لندرتها وقدمها وقلتها من مصدرها بلاد إيران وهي عبارة عن قطعة قماش منسوجة من خيوط ملونة على شكل أقلام إما عريضة أو ضيقة بحسب الشكل وعليها رسومات عدة وهي عدة أنواع منها المُحمدية والأحمدية والعقربية والخرساني وغيرها.. وتلف فوق الشروال، والصدرية أو النصية وهي أشبه بجاكيت دون (الكمين) إما يتم حزم الشروال فوقها أو تلبس فوق الملتان وذلك بحسب تصميمها ونوعها، والمِلتَان هو كالجاكيت مزينًا بالخرج، والعرقية التي تُحاك بالإبرة يدويًا من خيط يصطلحون عليه باسم (الفانيلا) ويأتي عليها نقوش عدة كالسيوف والقناديل والثريات..، والمُجنَّدِيَّة (الجزدان) التي تُحاك أيضًا بالإبرة بخيط الفانيلا وعليها رسومات كالغزلان أو الأسود أو نقوش كالعرقية.. والسَّمْنِيَّة التي هي أشبه بالشماخ وسُميت كذلك للونها الذي يُشبه السمن وتُنسج من الحرير الطبيعي أو الصناعي وتُلف على الرأس بأشكال متعددة” بالإضافة إلى (الصرماية) التي هي الحذاء وتأتي بعدة ألوان بحسب اللباس ولونه، وكل تلك القطع المذكورة يصل وزنها إلى أكثر من 10 كيلو غرام، وقال أهل (أول): “اللبس العربي بدو ضهر يشيلو” في إشارة منهم إلى أيام الفتوة وحضّ الشباب عليه، فهم لكبر سنهم يعدلون عنه إلى ما هو أخف منه وزنًا مثل (الكلابية والصدرية المخرَّجة، والقِمباز الحلبي وهو أشبه بالكلابية لكنه يأتي مفتوحًا ويُحزم بكمر فضة أو شالة عجمية، أو ما يُسمى بالشَّف) والكلابية والقِمباز يندرجان ضمن اللباس العربي ويصنعان من الجوخ أو أقمشة أخرى، إلا أن دلالة اللفظ عندما تُطلق يأتي إلى الذهن القِطع التي ذُكرت آنفًا والتي تُفصَّل من قماش الجوخ الإنكليزي الذي كان يأتي قديمًا إلى مدينة حلب وغالبًا يأتي لونه كحلي، وجاء منه السمني والأسود والفضي والبُني الغامق إلا أن الكحلي والأسود أصل في اللباس، وهذا القماش ذو وزن وثِقل وسماكة على خلاف الأقمشة الأخرى كي يُركب ويُزين (بالخَرْج)، فبعد خياطة المِلتان والصدرية والشروال تُزين وتُزخرف بالخَرْج، وأعتقد أن سبب التسمية (بالخَرج) أتت من تخريج القِطعة وانتهائها من التفصيل كون الزخرفة هي المرحلة الأخيرة، وهو عبارة عن خيوط يختلف لونها عن لون القِطعة لتبدو ظاهرة، و(الخرج) مهنة بحد ذاتها تمتهنها النساء خاصة، لأنها تأخذ وقتًا طويلاً واسم العاملة به (المُخرِّجَة) ، حيث تَرسم المخرجة أشكالاً مختلفة على القطعة كالهلال والورد وشكل الفلك… وتُثبتها عليها بواسطة إبرة وخيط وهو عمل يدوي بحت، لذلك تأخذ القطعة الواحدة وقتًا طويلاً حتى تنتهي خاصة إذا كان خيط (الخرج) ناعمًا والنقوش كثيرة، والخرج يدخل في كل اللباس العربي في (الملتان، والكلابية، والشروال، والقمباز، والصدرية) وهو ما يُميز اللباس بشكل عام.
أما في وقتنا الحالي فلم يعد اللباس العربي لباسًا، كله بات مُزيفًا، أقمشته ممَّا تنسج منه البرادي التي تُوضع على الحائط، والخَرج فيه بواسطة مكنات تطريز حديثة لا قيمة له ولا شكل، والشالة صنع مكنات نسيج حديثة أيضًا بخيوط مُزيفة تُزين بها طاولات المطاعم والمقاهي لا قيمة لها، ويلبسه بتلك المواصفات بائعو القهوة مع احترامنا للمهنة وغيرهم ممن يدعون أنهم أهل له.
ارتباط اللباس بالمناسبات
“ولأن اللبس العربي بات غريبًا حتى في بيئته، فإن (لبِّيسته) يستغلون المناسبات للباسه (كالأفراح، وأيام الجمعة، والأعياد، والمناسبات الخاصة بين الأهل..) وذلك كمظهر من مظاهر التعبير عن الفرح، وكان له سوق خاص به عند الجامع الأموي بحلب وفي ساحته، وموسمه في العشر الأواخر من رمضان خاصة، بالإضافة إلى أيام الخميس من كل أسبوع على قِلة.”
لذلك حمل ذلك الحلبي لباسه العربي في حقيبة النزوح فضلاً عن باقي اللباس، لأنه يعرف قيمته وأصله، وكذا فعل كل مهجر من مدينته غيور على تراثه. وأُنهي هذا المقال بموال سبعاوي يخص اللباس العربي:
يا لابس الجوخ والزنار من شالي
ومرصعًا بالذهب وخيوط من شالي
ريت الذي يبغضك يمناه منشالي
يا سمهري القد حبك بالجواجي حَكم
ومن الفصاحة فكم أعطاك ربي حِكم
ما انسى ودادك ولو بالبين دهري حَكم
أو قطعوني إرب وعضاي من شالي