جاد الحق |
في الثورة يتجرد الإنسان من أنانيته، ويخلع، ولو مؤقتًا، مصلحته الذاتية لغاية كيان أوسع هو الجمع الثائر، أو الشعب، أو القضية، أو البلد، وأخطر ما يُهدد الثورات هي الدعوات التي تُمثل خطوة للوراء، أي تضييق الانتماء، وعلى مستوى أغلب دول الربيع العربي تكاد تكون العشائرية والمناطقية هي ذبّاحة الثورات.
كثيرًا ما يستخدم أعداء تحرر الشعوب دعوات العنصرية الجاهلية المقيتة عبر ورقتي العشائرية والمناطقية في تمزيق الجمع الواحد الذي أفرزه التفاف الشعب حول قضية عادلة، سواء كانت عقائدية أم مجتمعية.
في مجتمعنا السوري لو نظرنا إلى بيئة تحوي سكانًا أصليين ومهجرين، قد نجد نوعًا من خطاب الكراهية أو العنصرية بنسب متفاوتة حسب كل منطقة.
الشخص العنصري من أهل المنطقة يرى المُهجَّر هو منبع كل فساد مجتمعي، وسبب كل مشكلة (سرقة، دعارة، تسول، إساءات …. إلخ)
وفي المقابل يرى المهجرون المُضيف هو رمز كل شر، وأصل كل سوء (دواعش، شبيحة، مستغلون، جشعون، منافقون، بعيدون عن التحضر…. إلخ)
وبين هاتين الثنائيتين تتحول أصغر مشكلة سطحية جدًا في الحالات الطبيعية إلى صراع مسلح ضمن المدينة يسقط فيه قتلى وجرحى وتسير لحسمه الأرتال العسكرية.
وفي هذه الظروف، ظروف الحرب والفلتان والتهجير، يعود الإنسان في لا وعيه إلى حالته البدائية الأولى، فكما يقول متخصصو علم الاجتماع إن التجمعات البشرية ابتداء من الأسرة فالقبيلة حتى الإمبراطوريات، ما هي إلا حالة تكتل بشري باعثها الخوف من الآخر، الذي على أساسه يتجمع أبناء هذا التكتل وتجمعهم عصبيته التي تمكنهم من مدافعة غيرهم من التكتلات والعصبيات لحماية أنفسهم.
وهذا يفسر سبب نشاط حركات التجميع العسكرية منها والمدنية القائمة على الأساس العشائري أو المناطقي، ولو أردنا حصر وإحصاء التجمعات العشائرية والعائلية والمناطقية في الثورة لاحتجنا وقتًا طويلاً، خاصة لو أدركنا أن مصير هذه التجمعات التفسخ والانشقاق على بعضها، أو تحولها إلى أجسام ميتة سريريًّا، لأنها وُلدت بدافع عاطفي سرعان ما يتبدل أو ينتهي، ولا تملك رؤيةً لتطوير ذاتها، أو مرونةً تمكنها من احتواء غيرها، أو مواءمة التغيرات من حولها.
أحد الدارسين لعلم الاجتماع قال لي يومًا إن أهم صفة لهذه التجمعات (المناطقية والعشائرية) هي “العلمانية” لأنها تقدم رابطة الانتماء العشائري والمناطقي المصلحي على الرابط الأيديولوجي والمصلحة الدينية العامة، وهذا ما يشرح اختيار نسبة ضخمة جدًا من العشائر والقرى الحياد في الصراعات الفصائلية، والأيديولوجية في الساحة السورية مثلاً.
ويُفسر أيضًا انحياز هذه التكتلات لاحقًا للقوي الذي يحسم المعركة لصالحه بغض النظر إن كان صاحب حق أو لا، فمثلاً نجد المناطق العشائرية كانت مع النظام حين كان مسيطرًا، ثم مع الثوار، ثم مع الدواعش، ثم مع قسد، ثم سيعودون للثوار أو للنظام، وهكذا..
تبرُع جدًا الأنظمة القمعية العربية في توظيف هذه التكتلات لمصلحتها، لأنها هي من أنشأها وشجعها، وهي تعرف كيف تضغط على أزرار حساسيتها وتستقطبها، وكمثال على ذلك حين حصل حراك شعبي في الأردن ضد الملك منذ بضعة سنوات استعانت السلطة بأبناء العشائر الأردنية للتشبيح ضد المحتجين، بذريعة أنهم فلسطينيون يريدون طمس الهوية الأردنية للدولة.
ومن خَبِرَ الأردن يعرف الانقسام المجتمعي بين فلسطيني وأردني ودور السلطة في تغذيته.
في العراق استغلت أميركا القاعدة وأخطاءها، لتخلق مشروع الصحوات المعتمد على العشائرية، والذي مولته السعودية، ووظفته أميركا لمحاربة المقاومة العراقية بذريعة حرب الإرهاب والقاعدة.
في السودان ذراع الدولة العسكرية العميقة ضد الثوار في فض اعتصامهم كان قوات الدعم السريع، وهي أساسًا ميليشيات قبلية من قبائل دارفور العربية، أنشأها البشير لإبادة سكان إقليم دارفور الأفارقة بحجة دعم المتمردين على الدولة، وارتكبت هذه الميليشيات من الجرائم ما لا يحصى ولا يُعد، ودافعها بذلك العنصرية المحضة، وتسمى في السودان “الجنجويد”.
في اليمن وليبيا ساهمت العشائرية والعصبية القبلية والمناطقية في عرقلة مسيرة الثورة، وتضييع عديد الفرص على الشعب.
في سورية كانت المناطقية والعشائرية حصان طروادة الذي استخدمه النظام في تحييد المناطق عن بعضها، لعزل الثائرة منها عن محيطها، بغية إسقاطها لاحقًا (ريف دمشق، ودرعا أمثلة واضحة جدًا).
في ريف حلب الشمالي المحرر أصبحت المناطقية والعشائرية خطرًا يهدد السلم الأهلي، فكل مجرم هناك فصيل محلي أو عشيرة أو عائلة تحويه وتحميه من القانون والقصاص، بل وتوظفه في صراعاتها المصلحية مع الكيانات المنافسة، وصارت الروابط الفصائلية والمناطقية والعشائرية هي الرابطة الأولى والوحيدة، في ظل غياب أي مشروع وطني أو ديني أو سياسي جامع.
كنت أفضِّل الحديث عن الموضوع بمنظور آخر أقل حدة وجدية، أسرد فيه الأبيات الشعرية، والقصص والأمثال الشعبية، الراسخة في وجداننا الجمعي التي تعتبر خزانًا مغذيًا لهذه العقلية، وكيف تميز بها العرب، ثم أتى الإسلام ليشذبها ويضعها بمكانها الصحيح، لكن للأسف تصاعد خطاب الكراهية والتفرقة بما يهدد الثورة وأهدافها منعني من ذلك، فأي ساكن في المناطق المحررة يُدرك هذه المشكلة تمامًا ويعي خطورتها، لكنه عاجز عن حلها، خاصة إذا كان هو جزء منها حتى دون أن يدري!
نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى عصبية أيديولوجية ثورية (ضمن تعريف ابن خلدون للعصبية) تبني كتلة صلبة تسهم في صياغة وتمكين مشروع ثوري جامع تذوب فيه الفوارق، ويتوحد فيه الناس لتحقيق أهداف الثورة.