عبد المجيد العمر |
جلست تحت أشجار الزيتون بين أجزاء بطانية أعطاها إياها أحد النازحين معها، فخاطت معهما أكياسًا من “الخيش” علها تُبعد حرارة الشمس العالية، وافترشت التراب هي وأولادها وأولاد ضرتها بعد أن قامت بتسوية مكان الجلوس وهيأته لافتراشه والنوم عليه، وبَنت (وفاء) مطبخها الصغير المؤلف من ثلاثة أوعية لتعبئة الماء وبعض الصحون والملاعق التي يستخدمها 23 شخصاً موجودين في الخيمة ما بين طفل وكبير. ورغم أن الضرة مرة، لكنها اصطحبت معها في رحلة نزوحها زوجة زوجها الثانية الصغيرة بالسن وشاركتها خيمتها البالية علها تجد من يُؤنس وحشتها بعد اعتقال زوجها من قبل مجهولين وعدم معرفة مصيره منذ أكثر من عام ونصف.
تقول وفاء ذات الأربعين عامًا من قرية (الفان الشمالي) شرق حماة التي نزحت وعائلتها عدة مرات إلى أن استقروا في قرية (الهبيط) التي نزحوا منها مؤخرًا: “يوم نزوحنا من قرية (الهبيط) باتجاه الشمال همت على وجهي في الشوارع تاركة أطفالي في المنزل لا أدري إن عدت أجدهم أحياء أم أموت؟! فقد كان القصف عنيفًا، بحثت هنا وهناك عمَّن يُنقذنا من الموت، فالطائرات المروحية بدأت تنقل القصف من المحيط إلى داخل البلدة، والناس في حالة هلع شديد كلٌّ يريد السلامة لنفسه، وجدت أحد الشبان يقوم باستخراج القليل من أثاث منزله، فتوسلت إليه لإخراجنا، لم يمانع ونادى بصوت مرتجف بسرعة ما في وقت الطيارة أقلعت من المطار، سمعنا ذلك من القبضة اللاسلكية التي في يديه، فلا وجود للهواتف ولا للإنترنت داخل البلدة، خرجنا بثيابنا متجهين إلى المجهول، ذلك المجهول الذي أودى بنا إلى الأراضي الزراعية تحت أشجار الزيتون.”
عائلة وفاء واحدة من 606 آلاف نازح هجرتهم طائرات النظام وروسيا في الحملة العسكرية الأخيرة بحسب إحصائية للشبكة السورية لحقوق الإنسان صدرت في الأول من شهر تموز الجاري.
تكمل بتنهد وحسرة: “رفضت المنظمات تسلمي خيمة لعدم امتلاكي أرض ضمان أبني عليها الخيمة، والتي تبلغ كلفتها أربعون ألفاً دون أي مراعاة لوضعنا أو حالنا.
من أين أجلب المال وأنا أعيل بأطفالي وأطفال ابنتي ذات الخمسة عشر عاماً، تقطعت بنا السبل، وبحثت عن الكثير من الأشياء وتوسلت للجميع لتأمين خيمة لأطفالي، لم يعد بإمكاني حمايتهم من حرارة الشمس التي بدأت تؤثر على أجسادهم الصغيرة والتي تسببت لهم بالتهابات شديدة نتيجة تلوث الجروح، فقد أصيب بها ابني الصغير بعد سقوطه وخدشت يديه”.
لم تنتهِ المعاناة عند هذا الحد، تكمل وفاء قائلة: “إعاقات أطفال زوجي تسببت لنا بالعديد من المشاكل، فطفلته ذات الأربع سنوات، والمصابة بمرض التوحد، تتعرض للأطفال الموجودين في ذات المكان بالضرب بشراسة غير آبهة بما تفعل، وأما إخوتها الثلاثة فجلهم مصابون بالصم والبكم.”
منذ فترة ليست ببعيدة أخبرها أحد الخارجين من سجون نظام الأسد أنه التقى بزوجها في أحد الأفرع الأمنية، الأمر الذي زاد من حيرتها، فكل الذي تعلمه أن أحد رفاقه طلب منه العمل على صهريج لنقل المحروقات من مناطق سيطرة الأكراد إلى الشمال السوري، وفي أول سفرة له فُقد ليصلها بعد عشرة ايام نبأ وجوده معتقلاً لدى الأكراد دونما معرفة كيفية وصوله للنظام.
حاولت وفاء جاهدة للاستفسار عن مكان وجوده لكن في المحاولة الأخيرة طلب أحد الوسطاء مبلغًا ماليًا ضخمًا وصل بحسب وفاء إلى 10 آلاف دولار، طأطأت رأسها على كفها بهدوء وبحزن عميق وغصة نطقتها من القلب متمتمه: “لو كان معي ما قصَّرت بس العين بصيرة واليد قصيرة”
وبحسب تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان فإن 2460 حالة اعتقال تعسفي جرت على يد قوات النظام السوري خلال النصف الأول من عام 2019 بينها 117 طفلاً و122 أنثى بالغة، 1204 حالة تحولت منهم إلى مختفين قسرياً.
اختتمت وفاء حديثها بأمنية لطالما غفت واستيقظت على تحقيقها: ” لا أريد خيمة، لأستوفي شروط نزوحي الأخير ولا مساعدات، أريد زوجي وسقفًا يحميني وأطفالي، فالشعور بالوحدة بارد ومؤلم كبرد كانون وحرّ آبً”.