جاد الغيث |
وقف حسان مستندًا إلى عكازيه يشعر كأنه في عالم آخر، الدنيا تدور ورأسه يدور، ومازال صوت الطائرة الحربية الروسية يصم أذنيه، يداه مكتوفتان وعكازاه يبكيان، رجله اليمنى ثابتة لا تتحرك كأنها قطعة خشبية، ورجله اليسرى تمزقت لأشلاء بفعل قذيفة ودفنت تحت التراب منذ أكثر من سنة.
ينظر من بين دموعه إلى ألواح الثلج في أرض غرفة صغيرة تحتوي أجساد أربعة شهداء، اثنان منها لشابين من أهل بلدته، والجسد الآخر لابنه الذي لم يكمل عامه الخامس، والجسد الأخير لأمه.
(آه …يا أمي كيف أقوى على ذكر اسمك بعد اليوم وأنت بعد ساعات ستكونين تحت التراب؟! كيف أدخل البيت دون أن أسمع صوتك؟! كيف سيكون يومي وأنا أخرج صباحًا دون دعواتك.. آه.. آه يا أمي.”
يتنفس حسان بصعوبة، يكاد يختنق، يكرر ذكر اسم الله، يردده سرًّا وعلنًا، ويشعر كأن الوقت قد توقف، ويستعيد صورًا من ليلة أمس..
كانت ليلة دامية، اشتد قصف الطيران فيها على القرى المحيطة، وكثير من الناس نزحوا إلى مخيمات قريبة منذ أكثر من شهرين وحتى اليوم نتيجة الحملة العسكرية الشرسة من قِبل النظام وروسيا.
قريبًا من الساعة العاشرة ليلاً، في بلدة (محمبل) وقبل أن ينتهي يوم السبت 6 تموز 2019، كانت طائرة سوخوي 24 قد قصفت قريبًا من بيت حسان، كان في دكانه التي تبعد مسافة دقائق سيرًا على الأقدام، شعر كأن قلبه انقبض، وأسرع مع صديقه يستكشف الأمر، ظهرت طائرة أخرى وقصفت بيت حسان، وقبل أن يصل إلى بيته كان الركام قد دفن أمه وابنه الصغير.
نجا بقية أفراد العائلة، وبدأت فرق الخوذ البيضاء بالبحث بين الأنقاض، مازال حسان يسمع بوضوح أصداء أصوات المسعفين “يا شباب، يا شباب لازم تحفروا هون، في صوت من هاد المكان)” وآخر بأعلى صوته ينادي: “يا جماعة ابني عايش ويتنفس وين سيارة الإسعاف..” وآخر يقول: “شوي شوي يا شباب.. على مهلكن الرجال مكسَّر.. لازم تعرفوا شلون تشيلوا”
صوت سيارة الإسعاف يزيد الفزع في قلب حسان، يكاد قلبه يتوقف وجسده المنهك يهوي أرضًا، يشد على عكازيه المكسوين بالغبار ويقاوم، ويستغيث الله أن تخرج أمه وابنه سالمين من بين الأنقاض.
ولكن الله اختارهما لحياة هادئة مليئة بالنعيم، بعيدًا عن أصوات الطائرات الحربية وزعيق سيارات الإسعاف، والصوت الموجع والمزعج لآلات الحفر التي تشق الأرض بحثًا عن ناجين من قبضة الموت.
والآن ماذا بعد، يسأل حسان نفسه، وهو يتمنى ألا تذوب ألواح الثلج، سيبقى هنا في هذا المكان الصغير، يقف على رجل واحدة، يداه مكتوفتان، عيناه تبكيان، سيقاوم، سيصمد، لن يسقط عكازاه، هو يريد جليدًا يثبت الزمن، لتبقى عيناه متسمرتان على وجه أمه وابنه الصغير.
ولكن الثلج سيذوب قريبًا، ويدفن الشهداء في قبور من نور، ويغادرون الحياة، ويتركون غصة في قلب حسان الذي لم يعد يستطع شراء ألواح الثلج، صار يشرب الماء كما هو دون أن يضيف له ثلجًا، صارت مناماته ألواح ثلج تذوب لتكشف عن وجه أمه وابنه، يبتسمان، يتكلمان معه بكلمات مفرحة، يصحو حسان دون أن يتذكر من المنام سوى ألواح الثلج ووجهين ضاحكين.
وتعود الطائرة الحربية الروسية سوخوي 24 لتحلق من جديد، ستقصف مرة أخرى وسيكون هناك شهداء جدد، ألواح الثلج لم تعد تستخدم فقط للمشروبات الباردة، صارت تحيط بالشهداء، وتكسر لقطع صغيرة لتغطي صدورهم العارية.