صهيب إنطكلي |
في زمن مبكر من عمري بدأتُ التّدخين كعادةِ كثير من الشّباب؛ واليوم ينتابني رغبة شديدة بأن أنقل تجربتي الخاصَّة مع هذا البلاء المبين؛ عسى أن تصادف كلماتي آذانًا واعية.
دخّنتُ السجائر منذ ما يقارب العشرين عاماً بشراهة وإسراف كبيرين حتى ارتبطت صورتي لدى زملائي بالجامعة (بفنجان قهوة الإكسبريس والسيجارة)، ونتيجة ذلك خلعتُ الكثير من أسناني في عمر مبكِّر.
كنت أظن في التدخين أشياء كثيرة، منها أنني ذات مرة كنت أدرس في الحديقة عندما كنت في السّنة الرّابعة من مسيرتي مع اللغة العربيّة؛ القهوةُ بجانبي باردة من طول الانتظار والصبر بكأس كبير؛ وعلبةُ السّجائر بجانبي؛ تحذوها علبة جديدة (خشية نفاد علبة السجائر المفتوحة) وأنا أدرسُ وأدخّنُ ظانّاً نفسي (سيبويه مع القهوة والسّجائر) الفكرةُ التي كانت تملكني أنّي يستحيل أن أدرس دون سجائر، بعدها اكتشفتُ كم أني كنتُ ساذجاً وواهماً جدّا، فمع سنتين دون تدخين كان الفهم أوسع والحفظُ أفضل والقراءةُ أغزر.
إحساسي المرهف جدًّا منذ طفولتي سبب آخر كنت أسوقه عذراً لنفسي لأدخّن أكثر، نفسي كانت تحاولُ إقناعي بأنّي لا يمكن أن ألقى النّاس وأنا بهذا الإحساس إلا بالسّجائر التي تُسكّن المشاعرَ وتعينُني على تحمل عمق الإحساس بما وراء الكلمات؛ وحتّى النّظرات.
كم كنت وواهمًا ومخطئًا مرة أخرى؛ فالتّدخين، على العكسِ تمامًا ممّا كنتُ أعتقد، يزيدُ الطّين بِلَّة؛ ويزيد الإحساس المرهف بؤساً وشقاءً؛ ويقتلُ براعم السّعادة في قلبي فتذبل قبل أن تصبح ورودًا وتموت، وبعد التّخرجُ بدأت مسيرتي مع الكتابة؛ وكانت البدايات قديمة ولكن بعض النُّضج جاء لاحقًا.
الوهم الذي كان يلفّني في مجال الكتابة والإبداع، وربّما هذا من أوهام الشعراء والأدباء عامّة، أنّ التّدخين يساعدُ على الإبداع ويزيدُ غزارة المعاني، حتّى أنّ الكاتب يجزمُ أنّه سينتحرُ أدبيًّا إن ترك السجائر.
أبشّركُ يا صديقي بأنّك واهمٌ ومخطئ جدّا؛ فأنا، ولا أدعي أني كاتب لا يُشق له غبار لكني أحاول، أكتبُ أفضل بعد سنتين من نظافة روحي من السّجائر؛ وتنساب المعاني في عقلي كنهرٍ رقراقٍ لا تعترضهُ حجارةُ المسار، وأزيدكُ من الشعر بيتاً أنّ
التّاريخُ والواقع يُكذّبُ هذا الوهم؛ فجمهورُ المبدعين لا يدخّنون؛ وأغلب الذين تقرأ كتبهم السّاحرة فتُبهرُ بها لا يدخنون، فالعلاقةُ بين السجائر والإبداع ليست طرديّة أبدًا.
كنتُ أظنّ أنّ السجائر تواسي وحدتي، فأيقنتُ أنّها تزيد الوحدة وتقتُل روح الانعتاق والحرّية بداخلي، وكنتُ أظنّ أن التّدخين يفرحني؛ فعلمتُ الآن أنّه كان يزيدُ معدّل كآبتي وحزني، وكنتُ أظنّ أنّ التّدخين يُجمّلني؛ فاكتشفت أني أحلى بكثير دونَ تدخين؛ ووجهي نَضِر، وكنتُ أظنّ أنّ التّدخين يزيدني قوة؛ فاكتشفتُ أنّه ما زادني إلا ضعفًا وفقرًا ومرضًا، وكنتُ أظنّ أنّ الصباحَ حلوٌ مع السجائر؛ فاكتشفت أنّ الصباحَ حلو فقط مع فنجانِ قهوةٍ عتيق وهواء جميل ونفَس طاهر، وكنتُ أظنّ أنّ المساء والسّهر لا يكونُ دون سجائر؛ فاكتشفتُ أنّ المساء أحلى وأنقى وأجمل مع القمر وحده دون لَوثِ السّجائر.
فيا عزيزي المدخن، أودُّ أنْ أخبرك خبرًا سعيدًا، أنّك قادرٌ على ترك التدخين إذا استعنتَ باللهِ من خلال أداتيه (الصبر والصّلاة) كما أخبرنا سبحانه.
ثم اتركْ التّدخين مرّةً واحدة وفوراً وليس بالتّدريج؛ ولا تنسَ أن تخبر السيجارة حقيقتها الصادمة قبل الطلاق الأخير؛ قل لها: “ما أبشعكِ وما أحقركِ وكم أنّك مقرفة!”
ولا تخبر أحدًا أبدًا في البداية أنّك تركت التّدخين؛ دعهم يكتشفون ذلك مع مرور الوقت، وإذا كنت من عشاقِ القهوة مثلي؛ فاستمر في عشقها؛ فهي تساعدك على تحمل فترة الإقلاع الأولى.
وأخيرا ابدأ الحياة دون تدخين وانطلق، ألا هل بلّغتُ؟! اللهمّ فاشهد.