براءة الحمدو |
ضمن سيرورة التحوّلات في المشهد العربي والإسلامي على امتداد تسع سنوات مضت منذ انطلاق ثورات الربيع التي أنتجت التحوّلات ذات المعطيات المركبة والمتداخلة، فُتحت أبواب المستقبل على احتمالات شتّى تحاول تفسير الماضي بدقة لتصل إلى مخرجات تُساعد على وضع الحلول وانتقاء العلاج المطلوب، فجاءت الدراسات المستقبلية والحوارات التخصصية للإجابة على كل التساؤلات.
د. جاسم سلطان صاحب “مشروع النهضة” تحاوره براءة الحمدو
كيف نميز بين الدين والإيديولوجيا؟
“الدين أصله النص المنزَّل، وجوهر الدين الإسلامي هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، والباقي تفصيلات وتعزيزات ضرورية. النص القرآني والحديثي قابل للتأويل عند قارئ النص وبالتالي ولدت عشرات الفرق الاعتقادية والمذاهب الفقهية والاتجاهات السياسية داخل الحاضنة الإسلامية باختلاف تأويلات النص وتفسيراته والكل داخل استدعى النص لدعم موقفه، فالدين نصّ مقدس والفهم إنسانيٌ منحوت، فالمقدس واحد والمنحوت متعدد بحسب قارئ النص.
وفي العصر الحديث وُلدت الإيديولوجيا الإسلامية على غرار الإيديولوجيات الغربية وهي نسق من الأفكار المنظمة التي تستند في تعزيز مقولاتها إلى النص الديني المنتقى وتفسر به الحاضر وتعد بصناعة عالم مثالي في المستقبل، وتضع تصوراً لافتكاك النظام السياسي عبر آليات محددة.
ومن هنا وُلدت التيارات الإسلامية (الإخوان المسلمون بتنوعاتهم، وحزب التحرير الإسلامي، وجماعة العدل والإحسان، والقاعدة، وداعش..) فكلهم يريدون الدولة الإسلامية ولكل تأويلاته وتصوراته وفلسفته، فالدين مركزه صلاح الإنسان، والإيديولوجيا الإسلامية هي نسق فكري متجه لافتكاك النظام السياسي بإعطاء مبرر ديني.”
لماذا تأدلج الإسلام؟ وما الغرض من الأدلجة؟
“لم يتأدلج الإسلام كنص، ولكن استندت إلى النصوص الدينية كثيرٌ من الإيديولوجيات التي انتُسبت له، وأمّا غرض الأدلجة فهو بحسب الظاهر افتكاك نظام الحكم بغرض إقامة الدولة الإسلامية كلٌ بنسخته المتصورة.”
لماذا تراجعت قوى الإسلام السياسي خلال السنوات القليلة الماضية؟
لهذه الأسباب مجتمعةً تراجعت الحركات الإسلامية:
– لقد كان وعد الجماعات الإسلامية لمناصريها أنها تمتلك في حال الحصول على السلطة نموذجاً ربانياً سيسعد فيه أهل البلاد المحكومة وتتطلع له البشرية، وجاءت تجربة السودان وتنظيم الدولة بنماذج منفرة.
– روجت الحركات الإسلامية عبر استدعاءات قصص الأنبياء ومعجزاتهم لفكرة أن حمَلة الإيمان هم استثناء من قوانين القوة على الأرض، وأنه متى ما رفرفت رايات الإسلام جاءت المعجزات، وعبر المرور بتجارب أفغانستان والشيشان والجزائر ومصر وليبيا والعراق، وأخيراً سورية تلاشى هذا التصور وفقد بريقه.
– مع ثبوت فكرة غياب نموذج الدولة الإسلامية وغياب فكرة الاستثناء من قوانين الكون تفرغ المشروع من أهم أدوات الاستقطاب، ولم تبرز قيادات منظرة تملأ هذا الفراغ التصوري بسبب محاربة الفكر داخل هذه التنظيمات وانتشار ظاهرة التصحر الفكري.
– الحرب الإعلامية التي شنت على التيار الإسلامي ساهمت في زيادة الخسائر المعنوية.
– مع الاصطدام بالواقع برزت فكرة التفتت وسوء الأخلاق والخصومة ممَّا فاقم من الخسائر.
– برز جيل جديد شاب متسائل وينتمي للعصر وبسبب شيخوخة التنظيمات لم تستطع التنظيمات مجاراة أسئلته وهمومه، فقلت قدرتها على التجنيد والتحشيد.”
لماذا تم اقتلاع تيار الإخوان المسلمين أو محاربته في مصر وتونس وسورية؟
“هناك أربعة أسباب تقف خلف فكرة الاقتلاع:
– أمر متعلق بالأدبيات التأسيسية للإخوان المسلمين..
في كتاب أزمة التنظيمات الإسلامية وضعت جدولاً للنصوص التأسيسية لفكر الإخوان المسلمين والتي مازالت تشكل الفكر المرجعي للجماعة وخاصة في مصر وهي مبثوثة في فكر البنا وخلاصتها: “الحكومة المسلمة ليس فيها مكان لغير المسلم إلا عند الضرورة وفي غير الولايات العامة.. المسلم المنتمي للجماعة عليه أن يحرص ألا يقع قرشه في يد غير مسلم.. عدم احترام الحدود لأنها من صنع المستعمر.. حالما تتقوى الدولة الإسلامية فستقوم باستعادة كل الأراضي التي كانت لها يوماً ما.. أخيراً عدم الاعتراف بالنظام الدولي وهي أجندة صدام كونية والطرف الآخر يعلم هذه المنظومة من الأفكار”.
– أمر متعلق بتجاوز الدور الوظيفي الذي رسمته الأنظمة بعد 1973 وفي مصر تحديداً..
أراد السادات من تيار الإخوان دوراً وظيفياً وهو القضاء على التيار الناصري واليساري في مصر مقابل السماح لهم بالعمل دون ترخيص قانوني، ولكن تبقى تحت رقابة الأجهزة الأمنية، وقد التزم الاخوان بالسقف الموضوع لهم ولم يشتركوا في الثورة رسمياً كتنظيم إلا متأخرين.. رغم انخراط الشباب كأفراد في العمل الثوري ومع سقوط رأس الدولة اعتقد الإخوان بأن ذلك السقف قد زال، فأعلنوا عن نواياهم وانطلقوا لتحقيق مشروعهم.
وبذلك وجدت الأجهزة الأمنية تبريراً لانهيارها وهو (كيد الإخوان) لأنها لا تستطيع أن تعترف بالتهاوي تحت تحركات لشباب غير منظم، فتم بيع خطر الإخوان لتبرير فشل الأجهزة وانتقلوا للعدو رقم واحد.
– أمر متعلق بنمط العلاقة بالتيارات الوطنية.
لقد كانت الثورة فرصة للتأكد من نوايا التيار الإسلامي وقابلياته الديموقراطية، ومع انكشاف توجهات الاستحواذ لدى الإخوان انحسر الرداء الرقيق الذي تشكل قبل الثورة في حركة كفاية وانتهى باصطدام شباب الثورة بشباب التنظيم، فانقسم معسكر الثورة، ممَّا شجع الدولة العميقة على توسعة الشرخ وتحقيق أهدافها.
– أمر متعلق بالنظام الدولي.. فهو متوجس أصلاً من التيارات الإسلامية وخطابها المعادي والمستمر للغرب.. والمهدد لإسرائيل.. كذلك وجود أطراف عربية إقليمية كقنوات فاعلة مع صناع القرار الغربي والأمريكي في مقابل غياب قنوات التيار الإسلامي مع صناع القرار العالمي.. فروجت للخطر الإسلامي ولعبت على المخاوف المزدوجة للغرب لصالح أجندتها الاستبدادية باعتبار عداوة الغرب والنظم للإسلام السياسي.”
لماذا لم يُترك المجال للتيارات الإسلامية لتجرب وتفشل.. ويُترك ملاذ للشباب من التطرف والعنف.. أليس الإخوان تيار معتدل؟
“ذكرت سابقاً أهم أفكار الإخوان الإستراتيجية كما تُصورها الأدبيات الإخوانية وهي لا تنتمي لخطاب النهضة في تونس ولا لمهاتير محمد ولا أردوغان الذي قدم نصيحة لإخوان مصر تحديداً، وهي نقيض تلك الأدبيات التي أشرنا إليها في الإجابات السابقة، وتم رفض نصيحة أردوغان.. ففكرة الوسطية والعمل السلمي أصبحت تُترجم على أنها تكتيك في مقابل الأدبيات التأسيسية باعتبارها إستراتيجية.
أمّا الشباب المتحمس فكان يُراد استثارته إلى المدى الأقصى وسوقه إلى محرقة كبرى في جبهات واسعة من سيناء إلى ليبيا إلى مالي إلى العراق إلى سورية.. لوضعه أمام واقع الفشل مباشرة حتى في الحل العنيف فيستنفذ آخر تصوراته للحلول.”
ما وسائل شيطنة تيار الإخوان أو أي تيار إسلامي؟
“تستخدم كل الوسائل المعروفة في الدعاية السياسية ومنها الربط الشرطي، فتيار العنف خلق أرضية لفكرة (الإرهاب) وبالتالي استمرار استخدام مصطلح “إرهاب الإخوان” يصبح استدعاء أحدهما مستلزم لحضور الآخر في العقل العامي.. استخدام قاعدة ” اكذب اكذب فسيصدقك الناس”.. استخدام الإلحاح عبر تكرار نشر الأخبار المفبركة وتصفية القيادات النابهة.. وترك الأكثر غباءً تقود بحيث تصبح شاهد على الفشل.. وغيره أكثر.”
هل الحرب على الإخوان هي حرب على الإسلام؟
“هناك عوامل كثيرة لها دور في ظاهرة الخوف من الإسلام..
– الخوف الهوياتي يجتاح العالم نتيجة ظواهر الهجرة فحتى في البلاد الإسلامية، وبالنسبة إلى المسلمين هناك موجات عنصرية ضد المهاجرين وحتى العمالة سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة.
– ظهور التيار العنيف بلافتات إسلامية نتيجة الأفكار ذات الأساس الديني واستثمارها من قبل الأجهزة الاستخبارية في العالم لأجندات منها التخويف من الإسلام.
– الحرب على التيارات الإسلامية هو جزء من مجمل الصورة باعتبارها أداة ترويج للفكر الديني عموماً.”
ماذا بعد الإسلام السياسي؟
“هناك مسار كبير، فما حدث من انهيارات للمفاهيم والتصورات يعني أننا نعاني أزمة كبرى في الجهاز المعرفي، وهذه لا تطرح سؤال حركات ولكن منظومات أفكار كلية.. فالحداثة الإسلامية هي بنت مراجعة نظامنا المعرفي وهذا هو القادم.”
هل تسير الحكومات العربية إلى حتفها في محاربة النسيج المجتمعي عبر شيطنة التيارات الإسلامية ومحاربتها للإسلام السياسي؟ وهل ثورات الربيع العربي كانت رداً على ذلك؟
“الانهيارات والثورات في البلاد العربية لا علاقة لها بموضوع محاربة الإسلام السياسي، فجوهرها أزمة دولة ما بعد الاستقلال وتغير معادلة الضبط الاجتماعي التي تبنتها، والتي بنيت على فكرة السيطرة على العاصمة وتوفير الوظائف لسكانها الذين كانوا قلة، والذين كانت نسبة تعليمهم منخفضة والدولة تمتلك وسيلة الإعلام احتكاراً.. هذه المعادلة تغيرت فالريف زحف إلى المدينة فاكتظت بالسكان، ومستوى التعليم والتوقعات ارتفع، وعدد الخرجين فاق معدلات نمو الوظائف، واحتكار الإعلام والاتصالات أصبح صعباً، وبالتالي القبضة الأمنية أصبحت أقل قدرة. ومع كل دفعة طلاب يزداد تفاقم البطالة واحتمالات الانفجار ومزيد من القمع نتيجة عجز الموارد والاقناع مما يهيئ ويوفر طاقة انفجار أعلى تتراكم على مدار كل دفعة.. تلك هي الأسباب الحقيقية خلف ظاهرة الانفجارات المتكررة.”