إلى اليوم تعتبر وسائل الديمقراطية أفضل ما أنتجه الإنسان في العصر الحديث من أجل ترشيد الحكم وتمثيل الشعب في المؤسسة الحاكمة واختيار الحاكم، ولا بدّ من أجل أن تأخذ الديمقراطية دورها ألَّا تُفرض فرضاً كأدوات جامدة، بل أن يُصار إلى جعلها ثقافة متناسبة مع ثقافة الشعب الذي تطبق عليه، وقد تحدثنا عن ذلك في مقال سابق، فالديمقراطيات ليست واحدة وتختلف من مكان إلى آخر، وقد انضجت الشعوب تجاربها الديمقراطية عبر زمن مديد اتسمّ بالقسوة في كثير من الأحيان، ولم يكن الانتقال إلى هذه التجربة هيناً كما يعتقد البعض.
ورغم كل ذلك استطاعت قوى الاستبداد تطويع الوسائل الديمقراطية والالتفاف عليها لتعود إلى السلطة، فبقيت السيطرة على المال والإعلام هي ما يُحدد المتنافسين للوصول إلى الحكم، وصارت مصالح عالم المال هي من يتحكم بالترشيحات لا الكفاءة والمقدرة على الوصول بالبلاد والشعوب إلى الرفاهية، فصارت الديمقراطية تقوم بتغيير الوجوه فقط، وصار المال والإعلام هو الحاكم الفعلي للشعوب كاستبداد جديد لا يمكن الفكاك منه، خاصة أن الدعاية هي الأساس في وصول المرشحين للحكم.
وهذه الحالة معضلة ليس من السهل الخروج منها، وليس من السهل أيضاً مجاراتها وقد تأسست إمبراطوريات تحالف المال والإعلام، والمراهنة على وعي الشعوب بين فترة وأخرى هي مراهنة على الحروب والفوضى والمواجهة مع هذه الإمبراطوريات التي ستُعيد تشكيل نفسها مباشرة بعد الكارثة إما بأشكال جديدة تتناسب ووعي الناس الجديد، أو ستكون القوى المنتصرة هي صاحبة الامبراطوريات الجديدة للإعلام والمال، وبذلك سنبقى في دوامة كبيرة لا يمكن الخروج منها.
أظن أن ما نحتاجه هو تعديل وسائل الديمقراطية لتكون أكثر إنصافاً، وهو أمر لن يكون سهلاً على الإطلاق، فحتى مع وضع حدود للدعاية واستخدام المال في الانتخابات، ستبقى قطاعات كبيرة من الشعب مرهونة لشركاتها التي تعمل فيها ولقرارات هذه الشركات، وستمثل خيارات إسقاطها خيارات تهديد الدخل والمعيشة والاستقرار الاقتصادي.
ليس بوسعي أن أتخيل كيف من الممكن أن نطور أساليب جديدة للحكم تكون أكثر جدوى، وأكثر التصاقاً بالمفاهيم الرشيدة، لكن على الأقل أستطيع تصور أن الديمقراطية بشكلها الحالي قد تكون بوابة استبداد جديد، خاصة وأن القوى التي تتقن لعبتها حالياً هي القوى التي ستنال دعماً خارجياً لا القوى الوطنية.
المدير العام | أحمد وديع العبسي