منيرة حمزة |
من داخل قضبان النافدة لوَّح (خالد) ذو الست سنوات لوالدته وصاح بصوته الرقيق: “مع السلامة يا ماما، لا تطولي جيبيلي شوكولا وبسكوت” ثم علا صوته بالصراخ بعد ما احتضنته أخته الكبرى وأخبرته أن والدتها لن تغيب طويلاً، وستجلب لهم الطعام اللذيذة وتأتي.
مشهد يتكرر كل يوم مع هنادي العبد ٣٥ عامًا، التي تعمل مُدرِّسة في معهد الباسل في مدينة إدلب، ولحسن حظها أنها لا تغيب كثيراً، إذ بالكاد ثلاث ساعات يومياً، ما هون عليها مشقة العمل وترك أطفالها الأربعة في المنزل.
تقول: إنها تقفل باب المنزل عليهم وتُوصي ابنتها الكبرى ١٢ عامًا بالعناية بهم ريثما تعود.
إن الظروف المادية السيئة لغالبية الأسر دفعت الأمهات للبحث عن فرصة عمل تعينهم في معيشتهم، وهنا يصبح العمل ضرورة لا خياراً لتؤمِّن الأم لأطفال حياة أفضل وتساعد زوجها في بيئة لم يعد عمل الرجل يكفي العائلة ولتغطية أجرة المنزل وباقي التكاليف الأخرى.
لا تُعد هذه المشكلة حديثة، بل موجودة منذ خروج المرأة للعمل وانخراطها بالمجتمع، غير أن البيئة المحيطة بالمرأة في بلاد الغربة فرضت عليها نمطاً جديدًا في التعامل مع هذه المشكلة، فبعدما كانت الأم تضع أطفالها عند جدتهم أو أحد أقاربها ممَّن تثق بهم، بات هذا الأمر مستحيلا في الغربة، سواء كانت الغربة نتيجة نزوح داخلي أو لجوء خارجي.
الآنسة نوال محمود ٢٧عامًا، مهجرة من ريف دمشق، تعمل في اختصاصها مُدرِّسة للصف الأول في مدرسة (خالد الشعار) في إدلب، لديها طفلان بعمر ٤و٦سنوات.
تحكي لنا تجربتها كأم عاملة، بعيدة عن أهلها ولديها طفلان صغيران، تقول: “كنت أترك أطفالي عند جارتي بذات المبنى، أوصيها بهم، مقابل مبلغ مادي بسيط، أتواصل معهم باستمرار أثناء دوامي وأكلمهم بالجوال حتى يشعروا أني معهم، أغيب ما يقارب الخمس ساعات يومياً، وهي مدة ليست سهلة على طفلين بأعمارهم، يجهشون بالبكاء حين وصولي ويتشبثون بثيابي خشية البُعد عنهم مرة أخرى، لاحظت خوفهم من تصرفاتهم وكلامهم الدائم، فدائمًا يقولان لي: (ماما لا تتركينا، لا تروحي للدوام) فهم لا يحبون من يأخذ أمهم منهم هذه الفترة المؤقتة.
حتى اضطررت بالأمس القريب لاصطحابهم معي إلى المدرسة، بعدما قصفت الطائرة المبنى المجاور لنا، وترك ذلك رعباً وخوفًا مضاعفًا عندهم، ومن وقتها أصبحا لا يتقبلان فكرة بقائهما لوحدهما عند أي أحد.”
وعند سؤالنا الآنسة نوال عمَّا إذا تعرض طفلاها إلى أعراض جانبية نتيجة بُعدها عنهما وخوفهما الدائم، أجابت: “ابني الصغير (مجد) عانى من مشكلات نفسية، وبدا ذلك ظاهرًا في سلوكه وتبوله اللاإرادي وبكائه ليلاً، أصبح يخاف من الوحدة، والصوت العالي ما جعل ثقته بنفسه شبه معدومة، كل ذلك كان مزيجاً من ظروف الحرب والقصف، ونتيجة البعد عنهم أثناء فترة عملي، حسب ما أكده لنا طبيب الأطفال حين عرضناه عليه.”
يؤكد علم النفس أن شخصية الطفل تتكون في السنين الأولى من نشأته وتتأثر بالدرجة الأولى بالبيئة المحيطة وهي العائلة وبالأخص وجود الأم، لما له من أثر كبير في الصحة النفسية والجسدية، فكما أن وجود الأم مصدر أمان وثقة للطفل، فإن غيابها مصدر قلق وخوف واضطراب نفسي.
“دارين ” ابنة السبع سنوات تقصَّدت أن أتحدث إليها بنفسي وأعرف شعورها تجاه خروج أمها للعمل قالت: “بشتقلا كتير لماما بس تروح، ببكي شوي بعدين بتسلا عالجوال، وبظل خايفة وبستناها وبس تجي ببوسا وبقلا اشتقتلك”
أظهرت دارين أثر الجانب العاطفي في بُعدها عن أمها، في شوقها لها وانتظارها لتقبّلها وتعبر عن حبها لأن الطفل لا يحتاج فقط إلى من يؤمِّن له حاجاته من طعام وشراب وملبس ونظافة، فهذه الأشياء تفعلها أي خادمة أو مربية تعتني بالأطفال، لكن الطفل هنا بحاجة الى الحب والحنان وإشباع عاطفته بالاحتضان والقبل والضحك واللعب معهم. وهذه الأشياء لا تُوجد سوى عند الأم.
والأم العاملة بشكل خاص لديها مسؤوليات مضاعفة لتوازن بين عملها وأمومتها ومسؤولياتها المنزلية.
نجاح بالوش، ٣١ عامًا، مختصة بالإرشاد النفسي، تعمل مسؤولة حماية في مدرسة صلاح الدين بمدينة إدلب، ترى أن “العمل فرصة رائدة لتحقيق الذات للمرأة، وتمكينها بالمجتمع لاسيما في مدينة إدلب، حيث تَضاعف الحمل على المرأة وأصبحت مطالبة بتفعيل دورها سواء كمعلمة أو موظفة أو طبيبة، ولا يمكن الاستغناء عنها، والأمومة شيء طبيعي مرتبط بالمرأة وليس ظاهرة مستحدثة، ولكن غياب دور الرعاية للأطفال في أماكن العمل، والحضانات الخاصة بهم، وعدم وجود مربيات من المعارف أو الأصدقاء ممَّن هم ثقة، جعل الأم العاملة تبحث عن حلول ممكنة لبقاء أطفالها بأمان فترة غيابها عنهم.”
ثم قالت: “أنا شخصياً أكثر حظاً من غيري، في فترة عملي يبقى أطفالي الثلاثة في المنزل مع والدهم، وبالتالي يرتاح فكري من ناحيتهم، وعندما أعود أستلم المهمة، ويذهب زوجي إلى عمله”
ولخّصت لنا السيدة نجاح كونها مختصة بالشؤون النفسية، كيفية تفادي تلك المشكلات بقولها: “يجب البحث ضمن الحلول المتاحة، وأهمها أن تتمتع الأم بدرجة عالية من التنظيم في الوقت والمسؤوليات، إذ عليها أن تقضي مع أبنائها وقتاً كافياً لتعويضهم عن غيابها، وتعمل على تلبية طلباتهم المحببة، وإعطائهم قسطاً وافراً من الحب والحنان كنوع من الشكر والعرفان على وقوفهم معها وتحمل عملها.
ربما تأخذهم نزهة، أو تشتري لهم القصص التي يرغبون بها، وربما تعتمد أسلوب الحوار والنقاش في التربية وفهم أسباب قلقهم والعمل معاً على تجاوزها، مع تأكديها على أهمية بناء شخصيتهم المستقلة لتعزيز روح المسؤولية لديهم.
هذا على صعيد المرأة، أما الحلول الأكثر نجاحاً فهي تقع على عاتق الجهات المسؤولة عن العمل، بتوفير أماكن حضانة للأطفال، ولو بإمكانيات متواضعة كغرفة صغيرة مناسبة للأطفال، حيث يبقى الطفل الصغير قريباً من أمه، وبالتالي نجاحها في عملها يصبح أفضل، وهذه التجارب موجودة بالفعل في كثير من المؤسسات،
ولأن المرأة جزء لا يتجزأ من المجتمع فيجب دعمها والوقوف معها أينما كانت.”