براءة الحمدو |
على وقع ما شهده الشمال السوري في الفترة الأخيرة من سقوط بلدات في ريف حماة، في ظل المباحثات الجارية بما يخصّ المنطقة الآمنة وإدلب، بين الأطراف الدولية (الولايات المتحدة، روسيا، تركيا) تتجدد اللقاءات الثنائية بين أنقرة وموسكو، فضلاً عن الاتصالات المتواصلة بين واشنطن وأنقرة. وللحديث أكثر عن تفاصيل الحدث استضافت صحيفة حبر د. بشير زين العابدين (مدير المرصد الإستراتيجي السوري)
بداية لو حدثتنا عن ازدواجية الاتفاقين (التركي، الروسي) و (التركي، الأمريكي) بخصوص إدلب؟
“ليس هناك اتفاق “أمريكي، تركي” ولا اتفاق “روسي، تركي” بخصوص إدلب، وليست هنالك “اتفاقات” بالمعنى الفعلي، بل يقتصر المشهد الحالي على “توافقات” هشة تلجأ إليها القوى الفاعلة، وخاصة منها التي تملك قوى عسكرية في الأراضي السورية، بهدف تجنب التصادم العسكري فيما بينها.
هنالك حرص من طرف أمريكا على إبقاء حالة من الغموض إزاء تفاهماتهم مع الأتراك شرقي الفرات، حيث يُصرون على الاستمرار في دعم “قوات سورية الديمقراطية”، وعلى تقليص “المنطقة الآمنة” المقترحة من 37 كيلو متراً شرقي الفرات، إلى “ممر آمن” بعمق 5 كيلو مترات.
أما فيما يتعلق بإدلب، فيبدو أن الدبلوماسية الإسرائيلية قد نجحت في كسب تأييد موقف واشنطن لصالح العمليات الروسية، وذلك إمعاناً في إضعاف موقف أنقرة التي تواجه مأزقًا صعبًا، إذ إنها لا تستطيع مواكبة التصعيد الروسي من جهة، ولا تمتلك القدرة على مواجهته عسكريًّا من جهة أخرى، ما يدفعها لتبني دبلوماسية حذرة تتسم بالاضطراب، خاصة وأن الأزمة السورية باتت ضاغطة بصورة غير مسبوقة سواء على الصعيد الداخلي جراء مشكلة اللجوء، أم على صعيد إدارة مناطق “درع الفرات” و “غصن الزيتون”، أم حتى في المحافظة على تفاهمات “آستانة” التي أفقدتها الحملة الروسية الأخيرة قيمتها.
فيما يخص إنشاء “المنطقة الآمنة” هل السبب في “عدم الاتفاق” هي الولايات المتحدة الداعمة لقوات “سورية الديمقراطية” أم الأتراك الطامحون إلى توسيع الحدود التركية دون قيد كمعاهدة لوزان 1932 أم الروس لهم يد في عرقلة الاتفاق بين الطرفين؟
“أعتقد أن المسألة أعقد من ذلك، يجب أن نتذكر أن جميع المشاريع التي تم تقديمها منذ عام 2012 لإنشاء مناطق آمنة في سورية باءت بالفشل، وذلك رغم الجهوزية العسكرية والتقنيات المتوفرة لحماية المدنيين، ولو توفرت الإدارة الفعلية لتحقق ذلك.
المسألة عملياتية بحتة، إذ إن موسكو باتت تحتكر المجال الجوي السوري من خلال الاستحواذ المطلق على القواعد الجوية، وعلى الدفاعات الجوية وسلاح الجو التابع للنظام، بالإضافة إلى نشرها لمنظومات صاروخية متقدمة وتقنيات تشويش متطورة، وبالتالي فإن أي تفاهمات لإنشاء منطقة آمنة في سورية يجب أن تتم بمباركة موسكو، وهذا ما حاول تحقيقه “المؤتمر الثلاثي” بالقدس دون طائل.
تستطيع واشنطن تحدي التقنيات الروسية دون شك، إلا أنها لا ترغب في ذلك، بل تضغط على أنقرة للاعتراف بدور الوحدات الكردية مقابل منحهم حق الإشراف على منطقة حدودية هامشية بالاشتراك مع “طرف ثالث” بحيث لا يتمكن الجيش التركي من الاستحواذ على المنطقة، وسيمثل الاعتراف التركي بدور جماعات كردية محسوبة على حزب العمال الكردستاني المعارض تنازلاً كبيراً لو تحقق بالفعل.”
هل المشروع الإيراني تجمد مقابل التفوّق الروسي؟
“التفوق الروسي تقني وليس ميدانياً، بل يهيمن الإيرانيون على الجانب العملياتي البري ويتغلغلون في العديد من الفرق العسكرية للنظام، ويتفوقون في الجوانب الثقافية والاقتصادية على نظرائهم الروس، ولا بد من التذكير بأن تقدم النظام في إدلب لم يكن ليتم لولا تدخل الميلشيات التابعة لإيران التي كان لها دور الحسم (بمباركة واشنطن) منذ معارك القصير عام 2013 وحتى يومنا هذا.
يتمتع الإيرانيون بنفس تفاوضي طويل، وبقدرة على ضبط النفس في المراحل الصعبة، وبتفوقهم الإستراتيجي. ولدى إيران مشروع شرق أوسطي، يشمل صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت، ويمتد عبر الجغرافيا العربية دون أن تتمكن الدول العربية، المشغولة بصراعاتها البينية من صده.
وفي مرحلة تشديد العقوبات الأمريكية وتصعيد القصف الإسرائيلي ضدّ المواقع الإيرانية، تعمل طهران بهدوء على امتصاص الصدمة، وعلى إرباك خصومها بفتح قنوات متعددة للتفاوض مع كل جهة على حِدة، وتوظيف تناقضات المشهد السوري بين موسكو وأنقرة والدول الغربية، كما تعمل في الوقت ذاته على تعزيز موقفها الثقافي والاقتصادي مستفيدة من التدهور الشديد في وضع النظام خلال الفترة الحالية.”
هل تجميد عضوية تركيا في حلف الناتو سبب في تحالفها مع الروس عسكرياً واقتصادياً، ورأينا شراء المنظومة الدفاعية الروسية إس 400؟
“لم يتم تجميد عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، ولا بد من الاعتراف بأن حلف “الناتو” تلقى ضربات أقسى من تلك التي وجهها الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، وخاصة من قبل الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الذي أضعف التحالف بسياساته المناهضة للتحالف.
مشكلة الناتو أكبر من مجرد شراء تركيا منظومة صاروخية روسية، إذ تمتد لتشمل علاقة الولايات المتحدة بالحلف من جهة، وبتضعضع منظومات التكامل الغربي من جهة أخرى، حيث يتلقى الاتحاد الأوروبي ضربات قاسية على وقع سياسة “بريكست” البريطانية، وجراء الدعم الأمريكي لذلك التخارج الفوضوي وغير المدروس الذي أودى برئيسة الوزراء البريطانية السابقة “تيريزا ماي”، فضلاً عن استهداف بوتين للتحالف الغربي بتمتين تحالفاته العسكرية مع بعض الدول الأعضاء، ونشر منظومات الدفاع الجوي الروسية في شرق أوروبا والشرق الأوسط. ولا شك في أن الكاسب الأكبر من تدهور علاقة تركيا مع الناتو هو موسكو، التي باتت تمتلك أوراقاً كثيرة تسهم في إضعاف الموقف الغربي في المنطقة العربية، وكذلك في علاقات هذه الدول مع كل من طهران وأنقرة.
أما الانحياز التركي للسياسة الروسية فهو مؤقت ويقوم على أساس الاضطرار وليس على أساس الرغبة، إذ إن تخلي حلف “الناتو” عن دعم أنقرة في مواجهتها مع موسكو منذ أزمة إسقاط الطائرة الروسية عام 2015، هو الذي دفع بأردوغان لأحضان روسيا، ولا شك في أن سياسات “أوباما” ومن بعده “ترامب” قد أفقدت واشنطن موقعها المركزي في الشرق الأوسط، ولم تعد الولايات المتحدة تتمتع بالمصداقية بالنسبة إلى حلفائها الخليجيين أو الأتراك.
هل يتعلق مصير “إدلب” بمنطقة “شرق الفرات” بمعنى هذه بتلك في ظل التفاهمات المزدوجة (أنقرة، موسكو، واشنطن)؟
“يصعب التسليم بمعادلة “هذه بتلك” في الشمال السوري، إذ إن تعدد الأطراف وتعقد المشهد العسكري يجعل من غير الممكن التوصل إلى تفاهمات ثنائية وتجاهل باقي الفرقاء، حيث تتفاوض موسكو مع واشنطن وتل أبيب من جهة، وتتفاوض مع إيران وأنقرة من جهة ثانية، وتعمق تحالفها مع دمشق من جهة ثالثة، بينما يهيمن التوتر غير المعلن بين إيران وتركيا في الشمال السوري.
لقد أدى تعقد مشهد الأزمة السورية إلى تفكيك جغرافيتها، وتحويل مناطقها الرئيسة إلى معادلات منفصلة تختلف معالمها بحسب اختلاف اللاعبين، حيث ترتسم في الجنوب قواعد لعبة مغايرة للوضع في الساحل، كما تختلف معادلة شرق الفرات عن غربه. ورغم محاولة أنقرة ربط تنازلاتها في إدلب بمكاسب يمكن أن تحققها شرق الفرات، إلا أن الدعم الأمريكي لقوات سورية الديمقراطية وتذبذب الموقف الروسي يجعل مهمة أردوغان صعبة للغاية. ويبدو أن الدبلوماسية الإسرائيلية تعمل على تشكيل معادلة كردية انفصالية شرق الفرات، بدعم عسكري أمريكي، ومباركة روسية، وتمويل عربي، في حين تعمل كل من دمشق وطهران على تصعيد الموقف العسكري ضدّ أنقرة، ولا يبدو موقف تركيا جيداً في الداخل السوري خلال الفترة الحالية.
بالنسبة إلى سقوط المناطق الأخيرة من ريف حماة (مورك وخان شيخون).. لو توضح لنا الصورة من كان السبب في سقوطها؟
“يصعب تقديم إجابة مبسطة في ظل الخسائر البشرية الفادحة، وعلى أنقاض البيوت والمستشفيات والمساجد المهدمة، ومبيت أكثر من مليون سوري في العراء، ولا يمكن الاستهانة بالصمود الأسطوري وبالتضحيات الكبيرة التي قدمها الثوار، ومن غير الإنصاف تقييمها بصورة سطحية مجحفة.
والحقيقة هي أن جميع الأطراف الفاعلة تتحمل وزر تلك الخسارة الفادحة، فالذين عوّلوا على آستانة وضامنيها كانوا خاطئين، والفصائل التي تبنت إستراتيجية دفاعية محضة دون خطط استباقية أو تكتيكات هجومية وقعت في ذات الأخطاء التي وقعت فيها فصائل حمص وحلب ودرعا وريف دمشق دون الاستفادة من تجارب سابقيهم، وكان لتنظيم القاعدة وحلفائه من فصائل الغلو والتشدد السهم الأوفر في كسر شوكة الثوار، والاستحواذ على المنطقة مع إدراكهم بعجزهم عن الدفاع عنها، والإصرار على إبقاء الملايين رهائن سياساتهم الرعناء، فضلاً عن القوى الإقليمية التي آثرت الركون إلى مصالحها دون الاكتراث بحجم الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها القصف الروسي وبالعمليات البرية للميليشيات التابعة لإيران، وربما تكشف الأيام المقبلة عن ملفات يصعب الحديث عنها اليوم.”
على ضوء التطورات الحاصلة ماهي السيناريوهات المحتملة؟ هل الأمر سيؤول إلى سيطرة الأسد؟ أم المصير هو التقسيم؟ أم بقاء الوضع الحالي كما هو؟
“يبرع النظام الذي حافظ على حالة “لا حرب، لا سلم” مع الكيان الصهيوني مدة خمسة عقود في المحافظة على الأزمات واستثمارها لأطول فترة ممكنة، حيث تعيش محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء حالة من الانقلاب الأمني ومشاهد الصراع اليومي رغم إبرام فصائلها اتفاقيات مصالحة مع النظام قبل أكثر من عام. كما يدرك النظام أنه غير قادر على بسط سيطرته في المناطق التي سلمها الروس له خلال الأشهر الأربعة عشر الماضية، وبالتالي فهو يحافظ على استمرار الأزمة لأطول فترة ممكنة، ولا يبدو متعجلاً في حلحلة الملفات الملحة الأخرى كعودة اللاجئين، وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع محيطه الإقليمي.
لا بد من الاعتراف بأن سورية باتت مقسمة على أرض الواقع، حيث تبسط مختلف القوى الإقليمية هيمنتها العسكرية على مناطق مختلفة من البلاد ( الولايات المتحدة، وإيران، وتركيا، وروسيا) وتستبيح تل أبيب الأجواء السورية بموافقة موسكو، وتتفاوض القوى الإقليمية والدولية فيما بينها على مناطق النفوذ دون أن يكون هناك تمثيل لأي طرف سوري، ويبدو أن الأمور ستستمر على هذه الصورة لفترة ليست بالقصيرة، إذ إن جميع الأطراف الداخلية تُعاني من إنهاك شديد عقب ثماني سنوات من الصراع، في حين تعجز القوى الخارجية عن الاتفاق فيما بينها على تقاسم مناطق النفوذ، وتعاني كل من “جنيف” و “آستانة” من حالة شلل كامل، ولا يمكن العثور على أي إستراتيجية مركزية لإنهاء دوامة العنف ووقف معاناة الشعب السوري.