صهيب إنطكلي |
عندما عرضْتُ على أحد أصدقائي أنْ يكتبَ قصصًا من وحي الثّورة، وأنا أعلم قدراته الأدبية الرفيعة، لمستُ تردده؛ فوعدني وسوَّفَ ثم أخلفَ؛ فاستغربتُ من موقفه؛ وعندما ألححتُ عليه بالطلبِ أجابني بخجلٍ: “ما بقدر؛ لأن أبي وأقاربي يذهبون إلى حلب ليقبضوا الراتب؛ وأنا أخاف عليهم؛ وحتّى لو كتبتُ فممكن باسم مستعار”
نعم؛ إنه الراتب؛ أربعونَ ألفًا أو تزيد؛ ربما لا تكفي لتغطيةِ نفقاتِ بيتٍ مُستأجَرٍ كريمٍ مع متطلباتِه الأساسية؛ لكنّها ذاتُ تأثيرٍ طاغٍ على الموظَّف وأقاربه.
في المناطق المحررة يوجدُ عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين ما يزالون مرتبطينَ بِوظائفهم عند حكومة الأسد؛ وربّما عدد كبير منهم يعمل في مجال التعليم؛ وعددٌ آخر لا يلتزم بالدوامِ في وظيفتِه لاستحالة التنقُّل بين مناطقِ النّظام ومناطق الثّوار يوميّاً.
هذا الراتبُ الزّهيدُ الذي يقبضونه له سلطان عجيب عليهم؛ فهو على سبيلِ المثال يمنعهم من أن يعبروا عن آرائهم المؤيدةِ للثورة علنًا؛ أو حتى على صفحاتهم الشخصية على الفيس بوك مثلاً؛ ربما تلمح أحدهم تغلي النارُ في روحهِ؛ ويكادُ ينفجرُ من شدةِ حبس انفعالاتِه وكلماتِه؛ يتمنى أنْ يعبّرَ عن ألمه لمجزرة يرتكبُها النّطامُ أو الرّوس لكنه يتذكر ذهابه إلى مناطقِ النّظام ليقبض الراتبَ؛ فيحبس الألمَ في قلبه أو يضعُ قناعًا ويختبئُ وراء اسمٍ مستعارٍ يكتبُ من خلاله؛ مع خوف شديد أن يكشف أمر هذا القناع.
ويتعدّى الأمرُ كما ذكرنا صاحب الراتبِ إلى أهلِه وأقاربه؛ فتراه دائمًا يوصي أبناءَه مثلًا ألا يكتبوا على صفحاتِهم الشخصية ولو كلمةً تؤيدُ الثورة أو تنقد النظام؛ ترى أحدهم يصيح بأهل بيته “إذا بدكم تفقدوني وراء الشمس اكتبوا وعبروا.. والله كل شي بيوصل للنظام”
صاحبُ الراتب لا يشارك في الأحاديث الثورية؛ يستمع كثيرًا فقط؛ وحتى ربما يخاف أن يشير برأسه بالموافقة؛ وهو مبدع في التنصل من الأحاديثِ الثورية ومغادرة الأمكنة.
وللراتبِ فوق هذا وذاك وظيفةٌ خطيرة؛ إذ يُجبر صاحبه أن يكونَ، دون إرادتِه، (جاسوسًا) على أهلِ مدينته؛ فقد فرضَ النّظامُ على الموظفين قبل أنْ يصرف لهم الراتب أنْ يراجعوا أفرع حزب البعثِ ليؤكدوا على (وطينتهم ونبذِهم للإرهاب) ويقدموا معلومات عن مواقع (الإرهابيين) في مدينتهم وتحركاتهم وأسماء مَن يعرفون منهم؛ وهذا يحدث بشكلٍ علني.
طبعا أنا أتكلم عن فئةِ الموظفين المؤيدين للثورة؛ أما الموظفونَ بيننا الذين يؤيدون النظام فهُم يُقدمون المعلوماتِ عن طيبِ خاطرٍ وباندفاعٍ ذاتي؛ فهم يعملون مخبرين طواعيةً؛ وعن حبٍّ حتى دون أنْ يكلفهم أحد.
أصحابُ الرواتب من الرجال غالبًا لهم سمات محددة؛ أهمُها أنّ أغلبهم حليقو اللحى؛ لأنهم ينزلون لعند النظام فالسمة هي نعومةُ الخدّين.
إنّنا نرى الكثير من المتقاعدين يضطرون لتحمل كل هذه الضغوطات النفسية بعد أن انقطعت بهم السبل وانحصر دخلهم بهذا الراتب الزهيد.
ومن الطُّرَفِ المؤلمة التي تُذكر في قريتنا أن رجلًا كبيرًا ذهبَ إلى مدينة حلب لاستلام مستحقاته من راتبه التقاعدي؛ وعند أول حاجزٍ لجيش النظام أوقفوه؛ وعلى طول الطريق في سيارة الجيشِ كانَ يفكر: “هل تكلمتُ في ضيعتي كلمة واحدة تؤيد الثورة؟ لا، هل ذكرتُ النظام بكلمة سوءٍ واحدة؟ لا، لماذا اعتقلوني إذاً؟!”
كل تلك الأفكار كانت تدور في ذهنه؛ وعندما وقف بين يدي المحقق قال له: “أنت تدعو للإرهابيين.” احتار الرجلُ المُسنّ في أمره؛ وقال: “يا سيدي مستحيل؛ أنا بحب السيد الرئيس وكل عمري مخلص للوطن؛ وأنا أصلًا ماني إمام ولا خطيب جمعة”
قال المحقق: “خراس؛ أنت في صلاة فجر يوم كذا؛ تاريخ كذا دعوت للإرهابيين”
تذكر الرجلُ أن في ذلك اليوم كان إمامُ المسجد غائبًا فقدموه لكِبَرِ عمره؛ فاضطر أن يقول: “اللهم انصر المجاهدين” فسُجلت عليه ولا شفيع له، ومن يومها خرج من القرية (روحة بلا رجعة) في استضافة دائمة عند بيت (خالته) والسوريون يعرفون تلك الخالة اللعينة!