نارمين خليفة |
المرة الأولى التي اعتلي فيها أساس بيتي المفترض أن أكون سيدته منذ عشر سنوات، الكثير من الخيالات جابت تفكيري وأنا أرى الأحجار الجرداء التي عانت الوحدة منذ سنوات بعيداً عن ساكنيها، سمعت أنينها وهي ترى عبرات الوداع على وجنتي، هل أتجرأ أن أصارح نفسي بأنني أودع المكان؟! أودع الأحلام وشجرة اللوز التي كانت تنبت في زاوية (برندة) المطبخ؟!
وقبل أن تغيب شمس يوم الجمعة، حيث حاول المتظاهرون الغاضبون الغارقون في نزوحهم الوصول إلى الحدود التركية وإسماع العالم صدى موتهم، نجحت أنا بكسر حاجز الخوف وبدأت جولة في حارتنا الوعرة، حيث أنا قبل عشرين عاماً وبين صخرتين تخيلت نفسي أجسو طفلة تهرب من صواريخ أخوتها الصغار، عادت بي الصورة وأنا أم أحتضن طفلي الوحيد بين هذه الصخور مرات عدة رافضة الدخول إلى المغارة الخانقة.
لا أعلم هل أتبع أحد الأساليب النفسية التي تساعدني على توقع وتحمل الكارثة التي أموت أنا و3 ملايين إنسان في انتظار حدوث؟! أم هو حنين قديم لذكريات الطفولة والحارة الواسعة الوعرة التي احتوت شغبنا نحن أبناء العمومة بدون ضجيج الجيران الحالي؟!
ربما اللهفة لأي ذكرى سارة حيث كنت أصعد أعلى صخرة في آخر بستاننا، اصطلح تسميته بستان، حيث كان بقعة أرض وعرة من جبل أشم مهدته يدا أبي الخشنتان فغدا جنة وافرة لأراقب حال المعارك أثناء تحرير أوتوستراد أريحا عام 2015 شمالاً وأزيز الرصاص يحبس الأنفاس، وكلما اعتلت غيمة دخان قذيفة أو صاروخ مبتعدة كانت أسارير القلب تبتهج باندحار المجرمين.
أما اليوم فأنا أجلس في ذات المكان وأكاد أرى دخان الصواريخ جنوبًا يقترب مني يكاد يخنقني ويسرق حلم الحرية مني ومنا ومن ذكريات الشهداء.
ما كان من المتوقع ولا للحظة واحدة وأنا أضع حجر الأساس لمنزلي أن يستطيع النظام التقدم ولو لخطوة واحدة على أرض إدلب التي خرج منها صاغرًا في 2015.
كانت الحماسة التي تقال بها هذه الجملة تكفي لحرق كل ما هو أمامها، كان يقيناً سماوياً يرافق نقاء كل الدماء والدموع والعرق الذي اختلط بحجر الأساس لثورتنا.
أما اليوم فبتنا نحاول العثور على أي جملة ترضية أو نقوّل الجمل مالا تحتمله لنخدر هلعنا ووجعنا وغصاتنا قبل أن تخنقنا قهرًا.
ربما أكون من المحظوظين الذين قدر لهم مثل هذا الوداع الهادئ، ودَّعوا الذكريات وملاعب الطفولة وأساسات المنزل ودروب الهوى، ورغم فسحة الوقت لا مكان للجرأة لوداع الشهداء فأين العهود والوعود؟!
حتى الصغار أحسوا بحجم الكارثة الوشيكة فأصبحت جملهم: (بدي ألعب بالضيعة بجوز آخر مرة، ماما أنا كل يوم بدي أتحمم بلكي رحنا عالخيمة، ماما مارح قص شعري لاحقين عالخيم، ماما شو عم بتساوي فوق عم تودعي الضيعة؟!) وفي كل مرة ننهرهم بطريقة قاسية بقولنا: ” بعيد الشر، يابومة..” رغم تجمد الدم في عروقنا.
الجميع كان يعبِّر عن هواجس التشرد والفراق، البعض كان يبحث عن سبيل يحمله إلى تلك الحدود الملعونة، والبعض كان ينفث الزفرات يفكر في أرضه التي سقاها عرقه ودم أبنائه الثلاثة، كيف لقلبه تحمل يد الطغيان تهتك طهارتها؟ وعديدون أكدوا أنه لا وسيلة تحملهم إلى الحدود سوى الأقدام، الكل كان يتشاغل بوجعه الشخصي عن الطامة الكبرى عن فكرة انهزام الثورة وانتهاء القضية وخبوت الشعلة في آخر النفق.
غابت شمس هذا اليوم العصيب على شعب القهر خلف الحدود وأمامها لتشرق شمس عام هجري جديد يطبطب على روحنا المتعبة بلمسة إيمان تقول لنا: إن أفضل خلق الله قد أُخرج وهُجر وطُورد ومازالت تلك الدعوة تنير الكون وتقاوم الظلام.
بينما أهنئ نفسي بالفرص المتجددة التي يهبني الله إياها في وداع لم يحظَ به الكثيرون ولو لمرة واحدة.