صهيب إنطكلي |
أذكرُ في إحدى المحاضراتِ أيّام دراستي في جامعةِ حلب؛ أنّي كنتُ أستمعُ باهتمامٍ إلى الدكتور في مادّةِ (النقد العربي الحديث والمعاصر)؛ كانَ يحدّثُنا عنِ الشّاعر (خليل حاوي)؛ بلغةٍ فيها من الشّغفِ والإعجابِ الكثير؛ فقال: “إنّ أدب الرجلِ أحدث ثورة أدبيّةً؛ فلقد أدخلَ رعشةً جديدة على الشعر العربي لم تكنْ قبلَه”.
ثمّ ختم الدكتور كلامه بحسرةٍ وتأوُّهٍ قائلًا: “كان خليل في السنواتِ الأخيرة من عمُرِه وحيدًا جدًا، خائباً خيباتٍ عدّة، متوترًا ومتألمًا؛ وكان بدأ يلمحُ طيف الشيخوخة يلوح في الأفقِ المغلق، مهدداً إياه، وهو الشاعر النبيل والمترفّع؛ وبعد عدَّةِ محاولاتٍ فاشلةٍ نجحَ الشاعر أخيرًا بالانتحار؛ عام ١٩٨٢ بعد أنْ أطلقَ النار على رأسِه من مسدّسه الخاص.”
لقد صور الدكتور انتحار خليل حاوي على أنّه فعل بطولي؛ فقال: “إنّه انتحر ألمًا على (الخيبات القومية العربية) ولم يحتملْ قلبه الرقيق مشاهد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في ذلك العام.”
ذكرتني سيرةُ (حاوي) بما حدّثني به صديقي الذي كان يدرسُ بكلّيّةِ الفنونِ الجميلة؛ كان موهوبًا في الرّسمِ ومُعجبًا جدًّا بالرسامِ العالمي (فان جوخ) وإعجابه هذا تسرّبَ إليه أيضًا من معلّمه؛ قال لي مرّة: “بما أنّكَ تدرس اللغة العربية وتحب الأدب؛ اسمع إذًا هذه الرسالة الرائعة الّتي أرسلها (فان) إلى أخيه (ثيو): (التبغ يحترق، والحياة تنسرب. للرماد طعم مرّ بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تمامًا: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقًا بها.. لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟! إنه الإخفاق مرةً أخرى. لن ينتهي البؤس أبدًا… وداعًا يا ثيو، سأغادر نحو الربيع).” قالَ صديقي: وفعلًا غادرَ (فان) نحو (الربيع)؛ فلقد انتحر بمسدسه الخاص؛ ومات ولم يبلغ السابعة والثلاثين من عمره.
وأيضًا صوّرَ الكثير انتحارَ (فان) على أنه فعل بطولي؛ فاخترعوا قصة قتلِ صبيان له بالخطأ؛ فآثر هو أن يحميهم وادعى أنّه أطلق النار على نفسه.
ونحن الطلّاب آنذاك في معظمِنا وجدنا أساتذتَنا كذلك يفعلون ويجعلون أولئك مثلًا أعلى؛ ونحن على نهجِهم سائرون.
والسؤال هنا؛ لماذا أرادوا لهؤلاء وأمثالهم أن يكونوا مثلًا أعلى لنا؟! وما السرُّ وراء الإخفاء القسري في المناهج التعليمية لآلاف النماذج الإنسانيّةِ العربية والإسلاميَّة المشرقة؟! الجواب واضح، إنّها المناهج التعليمية الفاسدة والمفسدة؛ تقوم بوظيفتِها في إنشاء جيلٍ مغرَّبٍ؛ مشّوّه المعالم؛ مشوّهِ الفكر؛ ضاعتْ ملامحه العربية والإسلامية فباتَ معوَّقًا عن كلّ خير وهو يمشي على قدميه.
ويتعدى الأمرُ التعليمَ ليشمل معظمَ مناحي الحياة العامة؛ ففي مجالِ الفنّ مثلًا اتخذتْ مجتمعاتنا التائهة (الفن في الغرب) بكلِّ ما فيه ممَّا يُنافي ديننا وأخلاقنا ومجتمعنا، واتخذته مثلًا أعلى؛ فأصبحتْ أكثر البرامج شهرةً وجماهيرية تلك التي تُنسجُ تمامًا على منوال البرامج الغربية؛ خذ مثلًا برنامج (آراب آيدول) الذي شغل ملايين العرب وأضل شيبهم قبل شبابهم؛ ونزعَ بقيةً باقيةً من خُلُق أبنائهم؛ إنه النسخة العربية من برنامج المسابقات الغنائي العالمي “Pop Idol” الذي اخترعه (سيمون فيلر) وطورته شركة فريمانتل البريطانية، وهذا على سبيل المثال لا الحصر في مجال الفن.
ومن الطُرف التي صادفتها في هذا المجال؛ أن بائع الخضار جارنا له ولد اسمه قصي؛ أردت مرة أن ألاطفه؛ فسألته: “أهلك سموك قصي على اسم إنسان مشهور؛ أكيد بتعرف مين” قصدتُ (قصي) الجد الأكبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرد الطفل بسرعةٍ: “طبعًا بعرف؛ سموني على اسم الممثل قصي خولي”
لم يفاجئني جواب الصغير كثيرًا؛ فهؤلاء الممثلون والممثلات والمطربون والمطربات؛ هم الذين يتصدرون المشهد الإعلامي في قنوات الإعلام؛ مع تغييب واضح لكلّ فن حقيقي أصيل؛ نابع من حضارتِنا وقيمنا، وقِس على هذا في مجالات أخرى كالرياضة واللباس والعادات وكل شيء؛ إن الاغتراب الحقيقي ليس السفر ومغادرة الأرض والوطن؛ إنما أن تُصبح بفعل فاعل غريبًا عن ثقافتك وعن قيمك وعن عروبتك وعن دينِك؛ عندها تشعرُ أنك رمادي، لا عربي ولا أجنبي، لا مسلم ولا كافر؛ لا أشقر كالغربِ ولا أسمر كالشرق الجميل؛ إنك شيءٌ بين بين؛ فقدت شخصيتك الفريدة وفقدتَ مثلك الأعلى.