قرأتُ في الفترة الأخيرة كثيراً من المنشورات والتعليقات التي تحاول محاكمة التاريخ، وبالأخص فترة الحكم الأموي على أنها الفترة التي أسست للدكتاتورية وغيرت نظام الحكم القائم على الشورى واستبدلته بالتوريث، ثم تبعها بعد ذلك بقية الحكومات أو (الخلافات مفرد خلافة) العباسية والفاطمية والأموية في الأندلس والعثمانية المتعاقبة على الدولة أو التي ظهرت في كنفها كدويلات وإمارات مستقلة (لامركزية) النظام نفسه (التوريث والاستبداد) كالدولة الحمدانية والأيوبية والمملوكية وغيرها …
ولا أجد أن هذه المحاكمة تصح من أي وجه لأسباب عديدة، لعل أهمها إلى أن نظام الشورى في الأصل لم يكن ناضجاً، وعرف أربعة أشكال مختلفة لأربعة خلفاء، أحدها كان قريباً من نظام التوريث وهي “الوصاية” التي عهد بها أبو بكر لعمر، وما دونه كان محصوراً بشورى أشخاص لم يعد يوجد في العصر الأموي من يوازي قدرهم عند عامة المسلمين ليكونوا مفوضين باسمهم، وآلت الخلافة إلى الحسن بن علي رضي الله عنه بعد مقتل والده بتوريث مباشر، وهو ما لا يستنكره كثير من المسلمين المعاصرين ويعتبرون الحسن هو خامس الخلفاء الراشدين.
ولعل التوريث كان أقدر على حماية الخلافة بالعصبة التي تدافع عنها؛ لأنها أصبحت أمرًا مرتبطًا بالعائلة (المالكة) مما أجهض محاولات بث الفتن في تلك الفترة التي أودت بثلاثة خلفاء قتلاً في العهد الراشدي؛ لأنه لم تكن أي عصبة تشعر أن أمر الخلافة يخصها وحدها، بل كانت أمرًا يخص عامة المسلمين دفعة واحدة.
كان التوريث هو أمر شائع ونظام معروف في تلك الفترة لم يخترعه المسلمون بل وجدوا أن الروم والفرس إمبراطوريتان عظيمتان بسبب إجماع الناس فيهما على عائلة حاكمة لا ينازعها أحد أمرها، وكان الناس قادرين على تقبله أكثر من أيّ نظام آخر، وقد أثبت نجاحه في تلك الفترة فتوسعت الدولة وازدهرت. حتى سقوطها وإعادة تشكلها ضمن هذا النظام بات أسهل في ذلك الوقت.
لم يفكر أحد باختراع شكل جديد، أو حتى بتطوير نظام الشورى لعدم الشعور بالحاجة إليه واستقرار أوضاع البلاد وازدهارها ضمن النظام القائم
ما يهمنا هنا أن أي حكم على ذلك النظام وتقييمه ضمن الظروف والمعرفة الحالية هو أمر يجانب الصواب، لأنه نظام أثبت بالوقائع التاريخية أنه كان جيداً، والأفضل باعتبار أنّ التجربة اختبرته، وليس لدينا أي تجربة تقول إذا ما كانت نظرياتنا حول تطوير نظام الشورى في ذلك الوقت – وأصرُّ على القيد الزماني هنا – سيكون أفضل ولن يخلق فوضى دائمة ويفتت وحدة الدولة ومركزية الخلافة في ضمائر الناس، بسبب عدم تطور الأساليب التقنية التي تسمح بممارسة انتخابات حقيقية في دولة تمتد من الصين إلى حدود إسبانيا، وربما هناك أسباب عديدة أخرى تؤيد نظرية التوريث.
عند قراءة التاريخ يجب أن نقرأه بواقعيته الماضية وليس بواقعيتنا الحاضرة، وتقييمه والاستفادة منه بناء على تلك الواقعية والظروف التي استدعت جريانه بشكل دون آخر، وإن أي حكم عليه ضمن الظروف الحالية هو خاطئ بالضرورة لبعد الزمن وتغير كل مظاهر الحياة.
كما أن حاكميته وجلبه إلى الحاضر ومحاولة صناعة المستقبل به كارثة أخرى، وإعادة النبش في الماضي لاستخلاص نظرية حكم جديدة لن تنجح، لأن الماضي مليء بنماذج صالحة له، وليس بنماذج صالحة للمستقبل، لذلك علينا أن ننطلق مما سبرته التجربة في واقعنا لإنجاز أنظمة دولة تناسب التطور الحياتي والتقني الهائل الذي نعيشه وتؤمن حكم الشعب وسلطته على الدولة ومواردها بشكل حقيقي وضمان عدم انتقالها إلى فئة مستبدة.
نحن اليوم نطرح الديمقراطية كشكل سائد، تمت تجربته ومعرفة إيجابياته وسلبياته، كما تم طرح التوريث في ذلك الوقت كشكل سائد للحكم ولإدارة الدولة، وربما بإمكاننا البحث عن أنظمة أفضل، ولكن الأمر لا يبدو متاحاً في الوقت الحالي في بلداننا على الأقل، رغم الدعوات المتكررة لإنتاج نظام جديد لإدارة العالم والنقد الكبير الذي يوجهه فلاسفة ما بعد الحداثة الثانية للديمقراطية ونظمها في العديد من البلدان حيث بدأت النظم الديمقراطية التقليدية بإعادة انتاج الاستبداد فيها بطرق جديدة بعد إحكام السيطرة على آلياتها من أرباب الإعلام والمال، وبعد موجة السيطرة الشعوبية أيضاً التي جعلت الحكم ليس باختيار العامة فحسب بل بين أيدي العامة والرعاع لتتحول إلى فوضى حريات كبيرة دون معايير واضحة للحق والعدالة والمساواة والفردانية والجماعة.
إن الديمقراطية تتحول اليوم إلى شيء شبيه بديمقراطية أثينا التي كان يرى أفلاطون أنها من أسوأ طرق الحكم حيث يتم دفع السلطة إلى العامة التي تتميز بالجهل والتخلف حسب زعمه فتفسد أنظمة الحكم وتقضي على الصالحين والفلاسفة، وتوصل إلى الديماغوجية التي توصل بدورها إلى تسلط الطغاة على الحكم، وبالتالي إعادة صناعة الاستبداد.
أو إنها في طور التحول إلى الأوليجاركيّة، أو حكم أصحاب الثروة، الذين يستطيعون السيطرة على أصوات الناس ومصالحهم، وبالتالي يهيمنون على الحكم بطرق مختلفة، وتصبح مصلحة هذه الفة هي الأساس مهما تعرض الناس للحروب والفقر والنزاعات في سبيل استمرار نماء الثروة عند هذه الفئة، ولعل هذا ما يحدث اليوم من سيطرة حقيقية للشركات الكبرى على مفاصل الحكم في أعرق ديمقراطيات العالم.
على كل حال تحتاج مناقشة المسائل السابقة لمقالات مطولة، ويبدو إلى الآن أن هناك إجماع جيد على صلاحية الديمقراطية في الشرق لأنها مازالت تحتفظ ببعدها القيمي لسلطة الشعب، وهناك دفع لتعويمها كآلية وحيدة لحكم الدولة الحديثة، والاستشهاد دائماً بنجاحاتها الكثيرة، ونحن لا نود هنا التشكيك في ذلك، على الأقل كاستفادة من الدرس التاريخي لتجربة التوريث كنظام سائد، و سنعطي لأنفسنا فرصة لتجربة وتطوير الآليات الديمقراطية مع الزمن من أجل بناء الأفضل بدلاً من القفز إلى معارك التنظير والرفض لما بعدها، والذي سيوقعنا في فوضى وأنظمة شائهه وناقصة ومفرغة من مجالاتها التطبيقية.
المدير العام | أحمد وديع العبسي