منيرة بالوش |
ربما كنا نسمع فيما مضى عن “المرأة المُعلقة” التي بين الزواج والهجران في منزل واحد أو في المدينة نفسها، أما اليوم فقد أصبحت هذه الصفة تُطلق على بعض النساء السوريات في زمن الحرب، فلاهنَّ مطلقات متسرحات بمعروف يواجهنَ الحياة المستقلة دون التزام بالشريك، ولا هنَّ أرامل متحسرات على أزواج غيبهنَّ الموت وأبقاهنَّ وحيدات يكابدنَ غِلظة الأيام.
إنهنَّ الزوجات اللواتي يعشنَ حالات اليتم الزوجي والفقد اليومي، وأزواجهنَّ على قيد الحياة، يجمعهنَّ ميثاق الزوجية الغليظ، وتفرقهنَّ المسافات البعيدة أو القريبة، فالإقصاء اليوم لا يُقاس بالمسافات إنما بوعورة السبيل في الوصول إلى مكان الطرف الآخر.
حيث إن التهجير القسري، والفرار من الخدمة العسكرية، واللجوء إلى البلاد الأوربية بوصفها حلم كل شاب، هذه الأسباب وغيرها دفعت بالرجال إلى الهجرة تاركين أسرهم ونساءهم على أمل اللّحاق بهم بعد إجراءات لمِّ الشمل التي قد تطول سنوات عدّة، أو تبقى هذه الأسرة في موضعها، ويؤمّن لها الرجل ما يكفيها من نفقات يومية، وهذا الخلل الطارئ جعل أغلب المُدن في أنحاء سورية مدن النساء بلا منازع.
ثلاث سنوات تحصيها “هالة ” باليوم والشهر، والسنة منذ تهجير زوجها “عبد الله ” من مدينة التل بريف دمشق إلى الشمال السوري في حملة التهجير أواخر عام 2016، الذي بدوره فضّل الهروب إلى تركيا بغية العمل وخوفًا من الوضع الأمني غير المستقر للمدينة واعداً “هالة” بأن يحضرها إليه ريثما يستقر به الحال ويحصل على عمل دائم يعنيه في غربته، لم يكن من الممكن أن تذهب معه، فهي في آخر شهر من حملها، وفكرة الذهاب إلى المجهول كانت مرعبة بالنسبة إلى كليهما، فاختارا البقاء عند أهلها، لترى كيف ستجري الأمور لاحقاً.
“شهور قليلة وأسافر إليك انتظرني سآتي مع طفلتنا الصغيرة تالا “
هذا آخر ما قالته له عند وداعه قبل أن يستقل الباص الأخضر، أصبحت ” تالا ” بعمر الثلاث سنوات، لا تعرف من والدها سوى صوته وصورته على الجوال، وبقايا أحاديث أمها عنه.
تحادثه عبر “الوتس آب “، تغني له، وترسل له القبلات وتبكي عندما تسحب أمها الجوال من يديها، لتكمل الحديث عنها..
لم تستطيع هالة السفر إليه، فلا يوجد طريق نظامي عبر السفر من دمشق إلى تركيا، وطرق التهريب مكلفة جدا بالنسبة إليها وغير آمنة كونها وحيدة، فاختارت الانتظار إلى أجل غير مسمى لتجتمع بزوجها ويلتم شمل عائلتها الصغيرة.
تعاني هالة ككل امرأة وحيدة بعيدة عن زوجها من الشوق وعدم الاستقرار بين بيت أهلها وبيت أهل زوجها، لتوازن بينهما على حساب راحتها وضياع أجمل سنين عمرها في الانتظار، هذا عدا المسؤولية المضاعفة التي تحملها في تربية ابنتها..
أما ” تهاني ” 35 عام لم تعانِي من حيلولة الحدود التركية في بُعدها عن زوجها، إنما هذه المرة، تفرقها حواجز النظام من إدلب إلى بيروت، بعدما عادت وأطفالها الأربعة منذ سنتين ونصف إلى مدينتها إدلب، تاركة زوجها الذي لا يستطيع عبور الحواجز بعد انشقاقه من الشرطة قبل سبعة أعوام، لتحول المسافات مجدداً بينهما وتحضر وسائل التواصل عن بعد كخيار لا بديل له للتواصل بينهما..
يعاني زوجها في لبنان من صعوبة إيجاد عمل دائم ومناسب، وتزداد أوضاعه المادية سوءاً يوماً بعد يوم بعدما نفد كامل المبلغ الذي كان بحوزته، حيث تعتبر الظروف الاقتصادية من المشكلات التي واجهت الأسرة السورية أيضًا التي بذلت في سبيلها جميع إستراتيجيات التأقلم، من بيع المدخرات والمصاغ الذهبي، أو ببيع بعض الأملاك من أراضٍ عقارات لتأمين ثمن طريق السفر للخارج وافتتاح شغل خاص يعينهم على متطلبات الحياة المعيشية..
وهذا ما حدث مع تهاني وزوجها، وبالتالي فقدوا المال والاستقرار معاً الأمر الذي جعلها تعتمد على نفسها في تأمين مصروف البيت والأطفال، عن طريق عملها في التدريس بإحدى المعاهد الخاصة متحملة كل الظروف السيئة، من ضغوطات الأسرة، والعمل معاً، فتربية أربعة أطفال ليست بالأمر الهين حسب ما قالت.
وهنا نجد أن بنية الأسرة السورية قد تأثرت خلال الحرب، على نحو واضح، وأدى التشتت والهجرة إلى تمزق النسيج الاجتماعي، وضعف التماسك الأسري، لتطفو على السطح بعض المشكلات الاجتماعية، كالطلاق مثلاً الذي كان خيار “سهام” بعد انتظار طويل انتهى بالانفصال.
تقول: “إنها سئمت وعود زوجها التي اتضحت أنها كاذبة في لم شملهم إلى ألمانيا حسبما اتفقوا عليه قبل خمس سنوات، لتكتشف بعد فترة أنه تزوج عليها وتركها وحيدة مع ثلاثة أطفال كانوا على أمل اللحاق بوالدهم غير أن الطلاق كان أسرع من تأشيرة السفر..
هذا بالنسبة إلى اللاجئين خارج حدود الوطن، أما المهجرين قسراً إلى الشمال والنازحين داخلاً فلم يكونوا أكثر حظاً، فالحياة في مدينة إدلب تبدو مغامرة خاصة بالنسبة إلى الذين لا يعيشون فيها، ويسمعون أخبارها بالإعلام، فيرسمون عنها صورة في مخيلتهم أنها مقبرة مفتوحة ومصدر رعب خاصة للنساء والأطفال، وهذا ما حصل مع “ميسم ” 25 من مدينة داريا بعدما أصابها الرهاب من القصف وأصوات الطيران، فأصبحت فكرة العيش في إدلب مستحيلة، ومع قلة الحيلة وضعف ماديات زوجها في السفر إلى منطقة آمنة، بقيت ميسم في دمشق تنتظر الفرج بأي صورة كانت، أحياناً تلّحُ على زوجها بالعودة والمصالحة، لكنه عدل عن الفكرة بعدما وجد مصير أربعة شبان من مدينة التل هو الاعتقال فور عودتهم بعد وعود كاذبة من النظام بتسوية وضعهم.
لا خيار أمام ميسم إذاً، لاهي راضية باللحاق بزوجها ولا هو قادر على العودة لتبقى حياتهم معلقة بحبال الدعاء والأمل.
تقول المرشدة الاجتماعية ” هلا حيدر ” في حديثها لصحيفة حبر:
“إن النساء تحملنَ أعباء لم يعتدنَ عليها من قبل في ظل غياب الزوج والمعيل، وأثر غيابه على نفسية المرأة بالدرجة الأولى وفقدانها للأمن والسكينة والمودّة المتمثلة بوجود الرّجل جنبها”
وعليه لخصت “حيدر ” بعض الحلول من وجهة نظرها التي تتجه نحو تكثيفُ دورات الدعم النفسي للمرأة من أجل التّخفيف من معاناتها وزيادة ثقتها بنفسها، قد يكون بتعليمُ المرأة حِرفة بسيطة تملأ وقتها وتساعدها مادياً.
غير أن هذه الحلول لا تعدو كونها ” إبر مخدر” مؤقتة لا يدوم تأثيرها طويلاً، تسكن الألم بعض الوقت ثم يعود أقوى من السابق، ليبقى الجرح مفتوحاً عند أولائي النسوة المنسيات وراء عقارب الزمن، ينتظرنَ اللقاء بعد الفراق الطويل، والصبر المرير، خائفات من مصير مجهول كمصير الثورة السورية التي تخلى عنها الجميع وبقيت وحيدة تيمية.